السينما العراقية وشروط الخطوة الأولى
حميد حداد
لا تخفى على احد، أهمية الوعي الكبيرة في التعاطي مع الصورة، سواء في السينما أم التلفزيون أم الفن التشكيلي. والوعي الجمعي العراقي منشغل الآن بأساسيات حياتية أخرى لا تتيح له الوقت الكافي، لتنمية حسه بأهمية الصورة. وتتم عملية إنتاج العمل البصري، في الغالب، دون تفاعل أو تمثل على مستوى الواقع الحياتي بالشكل المطلوب، وبهذا يصبح التراكم الايجابي، في التجربة البصرية المطلوبة، عسيرا جدا. أن التدمير الممنهج الذي طال مفاصل الثقافة كلها في زمن الدكتاتورية، ما زال تأثيره حاضرا وسيمتد إلى زمن ليس بالقصير ويقع على الجميع عبء معالجة آثاره من خلال العمل المتواصل والبحث في السبل التي تديم عملية إنتاج الخطاب الثقافي، البصري منه على وجه الخصوص، فلدينا الآن الحرية، وعلينا أن نقاتل، من اجل الحفاظ عليها. تأتي ضرورة إعادة النظر في عملية توجيه الخطاب البصري في مقام متقدم من أولويات المعنيين بإنتاج هذا الخطاب، ولابد من العناية بمسألة تدريب المتلقي على طريقة جديدة في استيعاب الصورة والتعامل معها على أنها فن لا تصل رسالته إلا إذا تم التفاعل معها، بوصفها رسالة صورية لها مقوماتها وشروطها وتقنياتها الخاصة وعليه يتوجب أن تكون طريقة تلقيها خاصة أيضا، ويعتمد ذلك على تراكم صوري لدى المتلقي. ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بتضافر الكثير من الجهود وفي المقدمة تأتي جهود منتجي الخطاب الصوري، ثم المؤسسات الإعلامية. في الترويج لدور الصورة المشتغل عليها بدقة. وما يعنينا هنا في هذا المقام هو مجال التعبير السينمائي. ولان الجهود التي تبذل من قبل الكثير من المعنيين بالسينما والمدفوعين بصدقهم وطموحهم في الاتجاه إنشاء سينما عراقية تتوفر على الشروط الأساسية التي تقوم عليها أية سينما في العالم، فلابد إذن من مناقشة هذا الجانب بالكثير من الوضوح.
تواجه عملية صناعة سينما عراقية حديثة، الكثير من التحديات، أهمها أنها تفتقر إلى ابسط شروط الإنتاج السينمائي، إذ إن المشروع السينمائي، لا يمكنه أن يتم، إلا بوجود مؤسسات كبيرة، كشركات إنتاج، واستوديوهات تمتلك معدات متطورة، ومدارس خاصة تعتمد أنظمة تعليم حديثة، وصناديق دعم الإنتاج السينمائي، تنشئها الدولة من دون أن تفرض عليها وصايتها بالطبع لضمان استمراره، وتوفر دور العرض السينمائي، والاهم من ذلك هو خلق متفرج مدرب على التعاطي مع الصورة السينمائية. والانتباه إلى أن اعتبار ما أنجز من أفلام أو تجارب المخرجين الذين أنجزوا أفلامهم في السنوات الأخيرة، كحالة طبيعية والاستمرار بالطريقة نفسها، هو خطأ كبير، على الرغم من أهمية هذه التجارب التي تمخضت عن أفلام جيدة، ذلك لأنهم لم يجدوا أمامهم سوى أن يخوضوا التجربة من دون النظر إلى الصعوبات التي تواجههم، لكن ذلك لا يعني أن تستمر الحالة على هذا النحو. ولا يعني أن الصعوبات الموجودة سهلة التجاوز. ومهما كانت النيات الفردية صادقة، فإنها من الممكن أن تصنع أفلاما جيدة، لكنها غير قادرة على النهوض بصناعة سينمائية حقيقية على غرار ما موجود في الكثير من دول العالم، ولدينا أمثلة كثيرة، في دول عربية عديدة، منها سوريا على سبيل المثال، فقد أنجز السينمائيون السوريون الكثير من الأفلام المهمة، غير أنهم لم يستطيعوا لحد الآن أن ينشئوا سينما بالمفهوم الواسع، كذلك الحال مع ما نسميه تجاوزاً "السينما العراقية". فالأفلام العراقية التي أنتجت في السابق، اغلبها جيد، على الصعيد الفني، على الرغم من اختلافنا مع مضمون أكثرها، فقد توفر اغلب صانعيها، على حرفية معقولة، لكنهم لم يتمكنوا من صنع ذاكرة سينمائية عراقية، لأنهم صنعوا أفلامهم خارج السياق السينمائي الذي نعنيه، على الرغم من أنهم وضعوا بعض الأسس التي علينا أن ننظر إليها بوصفها إرثا، وليس من الحكمة القطيعة معها. وضمن هذا التصور، فان الأسس التي يفترض بالسينمائيين العمل على تأسيسها، موجودة بالفعل وان كانت بشكل بسيط، وهي تحتاج إلى عمل كثير، ومضن، من جميع الأطراف، وفي المقدمة يأتي السينمائيون أنفسهم، من اجل ترسيخ تلك الأسس. يصاحب هذه الجهود، العمل على توفير الإمكانات الضرورية لاستقطاب أصحاب رؤوس الأموال، الذين من الممكن أن يستثمروا أموالهم، في الإنتاج أيضا وفي إنشاء استوديوهات متطورة، ومدارس خاصة، تكون ملزمة بإتباع احدث الوسائل في التعليم وتعتمد معدات حديثة ومواكبة لما هو حاصل في الدول المتطورة سينمائيا، ولا بأس في أن تفكر في الجانب الربحي، فهذا مهم لها من اجل ضمان الاستمرارية والمواكبة. وطالما أن العملية الإنتاجية قد بدأت وان بوتيرة بطيئة ومعتمدة على الجهود الفردية، سواء السينما الروائية أو الوثائقية، فلابد من المواصلة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أهمية أن تكون عملية الإنتاج خاضعة لأسس صحيحة وحديثة تعطي الجانب التخصصي دوره الكامل.
أهمية التخصص
لا يمكن للسينما أن تقوم بالجهود الفردية وحدها لان السينما عمل جماعي، كما هو معروف، والتجارب الفردية يمكن أن تشكل انبثاقات خاصة، ويمكنها أيضا أن تسهم في خلق تيارات مختلفة تكسر السائد، ضمن سينما قائمة أصلا، لها مقوماتها وسياقها التاريخي ولها سوقها، كما حدث مع سينما المؤلف والواقعية الجديدة في ايطاليا، أو السينما الجديدة في فرنسا، أو السينما المستقلة في الكثير من الدول، أو حتى الواقعية الجديدة في مصر. وطالما أننا نتحدث عن سينما لم تقم بعد بالمفهوم الحقيقي للسينما الذي ننشده، فلا بد من الإشارة إلى نقطة جوهرية في العمل السينمائي إلا وهي التخصص. تأتي أهمية التخصص من ضرورة أن يظهر العمل السينمائي بالشكل اللائق، ولا يمكن أن يحصل ذلك إلا بتضافر جميع التخصصات وتفهم الجميع بأهمية دور كل واحد منهم، بوصفه مكملا لعمل زميله وتكون له القدرة على صهر دوره في قالب موحد هو العمل السينمائي لأنه الغاية النهائية. ومسالة الاعتقاد بأن المخرج قادر على انجاز الفلم بنفسه هو وهم، أن تراكم الأخطاء التي يرتكبها من يقوم بانجاز الفلم لوحده، تمتد إلى كل جوانب ذلك الفلم، أي أن الأخطاء التي ترتكب في السيناريو وتلك التي تحدث في التصوير، وأخيرا أخطاء الإخراج، تكون كلها في عمل واحد في الوقت الذي يفترض فيه أن يتدارك المونتاج ما وقع من أخطاء في مرحلة التصوير وكذلك المخرج الذي يتلافى ما وقع فيه كاتب السيناريو من قصور في الرؤية - وهذا الأمر يتعلق بالفلم الوثائقي أكثر من غيره، لأنه في الغالب يتم بدون سيناريو حقيقي قائم على بحث عميق- وهكذا الحال، إلى أن يصل العمل إلى درجة تتحقق فيها الرؤية المشتركة المتكاملة، بين كتابة السيناريو والتصوير وتقنية المونتاج والرؤية الإخراجية. فضلا عن أهمية توفر القدرة للمخرج على تشكيل فريق عمل متجانس، يشعر كل شخص فيه بأهمية دوره ضمن العملية ككل. أيضا، هناك أمر في غاية الأهمية، هو الجهد الهائل المبذول من قبل صانع الفلم مما قد يؤدي إلى الإجهاد ويؤدي ذلك بدوره إلى قلة التركيز في التفاصيل الصغيرة المهمة، أو يؤدي إلى تساهل صانع الفلم في الكثير من الأمور التي ليس من الصحيح التساهل فيها، وهذا ما حصل مع الكثير من الأفلام التي أنجزها أصحابها بجهودهم الفردية. والتجربة التي استخلصناها من المقارنة المنطقية التي لا بد من أن تعقد بين ما أنجزه سينمائيونا وبين ما ينجزه الآخرون، فالهنات والأخطاء التي تضمنتها الأفلام العراقية تؤكد ما نذهب إليه. والاستمرار على هذا النحو يعبر بالتأكيد عن قصور في الفهم، لا يساعد على إنشاء تقاليد صحيحة في التعامل والسلوك بين مختلف التخصصات، وسوف تتعثر العملية طويلا قبل أن يتوصل السينمائيون إلى تقاليد صحيحة في الوقت الذي يمكن فيه تجنب ذلك التعثر.
لدينا الآن أفلام جيدة على الرغم من الظروف الخاصة والصعبة التي تم فيها إنتاجها، وهذا ما يدعو للتفاؤل، فـ "أحلام" لمحمد الدراجي، و"غير صالح" لعدي رشيد، فلمان لشابين لهما مستقبل جيد في السينما (الروائية) ولهما فضل المخاطرة في ارتكاب الخطوة الأولى وبدونها لا يمكن البدء. ولدينا أفلام وثائقية كثيرة، هي جيدة بحق، منها على سبيل المثال "العراق وطني" و"سندباديون" لهادي ماهود، و"16 ساعة في بغداد" لطارق هاشم، و"العراق أغاني الرجال الغائبين" لليث عبد الأمير، وغيرها، كلها أنجزت في السنوات الخمس الماضية، دون نسيان أن هذه الأفلام -ربما ما عدا فلم "العراق أغاني الرجال الغائبين" الذي أنجز على أسس إنتاجية صحيحة، وسنأتي إلى تبيان ذلك في مناسبة أخرى- جميعها قد أنجزت بالطريقة التقليدية، أي أفلام فردية أصحابها مدفوعون برغبة انجاز أفلام بمعزل عن أي سياق جماعي مؤسساتي، على الرغم من الحلم الذي يحدوهم بوجود سينما عراقية حقيقية.
المدى