الاثنين، 22 سبتمبر 2008 

مالذي قدّمه مهرجان الفيلم العربي في





مالذي قدّمه مهرجان الفيلم العربي في روتردام للسينما العراقية؟


روتردام / عدنان حسين أحمد




تتصاعد وتيرة الاحتجاجات كلما اقترب مهرجان الفيلم العربي في روتردام من الموعد المحدد لإنطلاق فاعلياته وأنشطته الثقافية المتعددة. ومرّد هذه الاحتجاجات والتذمرات كثيرة أغلبها ناجم عن احتقانات شخصية، وبعضها تحصيل حاصل لسوء الفهم، وعدم الاحتكاك المباشر بطبيعة العمل الاداري وما يتطلبه من معطيات ومواهب لا تتوفر الاّ عند عدد ضئيل من الناس. ولكي نبتعد عن الملابسات والتخرصات لا بد من توصيف السمات العامة للمهرجان وما ينطوي عليه من محاور أساسية. يتبنى المهرجان خمس مسابقات وهي مسابقة الأفلام الروائية الطويلة والقصيرة، ومسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة والقصيرة التي تتنافس على جوائز الصقر الذهبي والفضي، ومسابقة أحسن عمل سينمائي روائي أول يحصل على جائزة الـ " ART " إضافة الى الجوائز التي تُسنَد الى أحسن ممثل وممثلة، آخذين بنظر الاعتبار أن أكبر جائزة من حيث القيمة المادية هي جائزة الـ " ART " التي تبلغ " 2000 " يورو، تليها جائزة جائزة الصقر الذهبي التي تمنح لأفضل فيلم روائي طويل وقيمتها " 1500 " يورو. أما جائزة الصقر الذهبي التي تُمنح لأفضل فيلم وثائقي طويل فتبلغ قيمتها المادية " 750 " يورو. وعلى الرغم من أن جوائز المهرجان ليست كبيرة قياساً بأي مهرجان عربي أو عالمي إلا أن هذا المهرجان الذي بلغ عامه الثامن لا يزال يسترعي انتباه السينمائيين العرب وبعض المخرجين الأجانب الذين نشاهد أفلامهم بين أوانٍ وآخر في العروض الخاصة والأنشطة الجانبية للمهرجان كأن يكون في " كارفان السينما الأوروبية – العربية " أو البرنامج المكرس لطلبة المدارس أو في البرامج الأخرى التي تقترحها إدارة المهرجان بحسب طبيعة المناخ العام الذي يحفِّز على استحداث محاور جديدة مثل محور " أفلام ضد الإرهاب " وما الى ذلك. كما أن الندوات والحلقات النقاشية لا تشذ عن هذه القاعدة حيث تتمحور على موضوعات جادة وأساسية تجمع بين الهمَّين السينمائي والفكري. ومن بين الملاحظات التي يثيرها بعض القراء والمتابعين، وبعض الشخصيات المُقنَّعة، مع الأسف، التي تحتجب وراء أسماء مُستعارة هي فكرة " عرْقنة " المهرجان، أو " توْنَسته " لأن المدير الفني للمهرجان عراقي وهو الأستاذ إنتشال التميمي، ورئيس المهرجان تونسي وهو الدكتور خالد شوكات. وحينما نقلتُ هذا التساؤل الى كلا الزميلين التميمي وشوكات مُستفسراً " وأنا المتابع للمهرجان منذ دورته الأولى وحتى الآن " أجابا بالحرف الواحد " أنهما لا يفضلان بلداً على بلدٍ عربي آخر مهما كانت الأسباب، لكن الأفلام الإبداعية المتاحة " وغير التجارية تحديداً " هي التي تفرض شروطها، وتجد طريقها الى المهرجان " وأضافا " بأن بعض البلدان العربية تنتج كل عام عدداً لا بأس به من الأفلام الروائية والوثائقية الطويلة والقصيرة ذات المضامين الجيدة، فلا غرابة أن يكون حضورها قوياً وملموساً." وعلى وفق هذا التصور فإن طبيعة الأفلام المشاركة تختلف من سنة لأخرى طبقاً للأفلام المُنتجَة سواء أكانت روائية أو وثائقية. دعنا ندقق في الأفلام التونسية الستة المشاركة في الدورة الثامنة للمهرجان ومسوغات مشاركتها في أكثر من محور. ففي حقل مسابقة الأفلام الروائية الطويلة عُرض فيلم " الحادثة " للمخرج رشيد فيرشيو، فيما عُرض فيلم " غير ممكن " للمخرج محمد بن بشير ضمن مسابقة الأفلام الروائية القصيرة. أما فيلما " جنون " لفاضل الجعايبي، و " سهرة العيد " لشيراز بو زيدي فقد عرضا في كارافان السينما الأوروبية – العربية، فيما وجد فيلم " أسرار الكسكس " طريقه الى حفل الإختتام. وهذه المشاركة معقولة جداً، خصوصاً وأن الأفلام التي دخلت المنافسة هي ثلاثة لا غير. فأين وجه الإنحياز الى الفيلم التونسي إذا كان المهرجان يعرض كل عام نحو 55 فيلماً؟ أما فيما يتعلق بالأفلام العراقية فهي ثمانية أفلام، سبعة منها وثائقية طويلة وقصيرة إضافة الى فيلم روائي قصير، وهذه الأفلام هي " الحياة بعد السقوط " للمخرج العراقي قاسم عبد والذي فاز بجائزة الصقر الذهبي، علماً بأن هذا العرض هو العرض العالمي الثاني بعد أن عُرض في ميونيخ وفاز بالجائزة الكبرى هناك. وفيلم " حرب، حب، رب وجنون " لمحمد الدراجي وهو فيلم وثائقي طويل يصور المعاناة الشديدة التي واجهها المخرج في أثناء تصويره لفيلمه الروائي الأول " أحلام " والذي سبق لمهرجان الفيلم العربي في روتردام أن عرضه في الدورة السابعة. أما الفيلم الثالث فهو " عكس الضوء " للمخرج قتيبة الجنابي، وهذا هو العرض العالمي الأول للفيلم والذي يعكس مدى إستجابة المخرجين العراقيين لمهرجان روتردام بحيث أنهم يفضلون هذا المهرجان كنقطة لإنطلاق أفلامهم وحاضنة لها. هناك فيلمان قدِما من داخل العراق في ظل هذه الظروف الحرجة والشائكة، ولعل فيلم " يوم في سجن الكاظمية للنساء " الذي يُعد إكتشافاً جديداً نظراً لطبيعة الثيمة الحساسة التي يتناولها الفيلم الوثائقي الذي أخرجه عدي صلاح. وكذلك فيلم " خارج الإطار " للمخرج نزار النداوي الذي سلَّط الضوء على مدينة السماوة العراقية من خلال مواطن عراقي يمحض الصور الفوتوغرافية حُباً لا نظير له. أما الفيلمان الآخران اللذان إشتركا في " الكارافان " فهما " عشق بغداد " لسعد جاسم الزبيدي، و الفيلم المميز الذي حمل عنوان " الطنجاوي " للمخرج خالد زهراو. الملاحظة الأولى اللافتة للإنتباه هي أن الأفلام في مجملها وثائقية، باستثناء فيلم " تقويم شخصي " وهو روائي قصير لبشير الماجد، وهذا ما يعزز ملاحظتنا السابقة بأن المهرجان محكوم سلفاً بما ينتج من أفلام، فلو كانت هناك أفلام روائية عراقية جيدة فستكون موجودة حتماً في محاور المهرجان المتعددة.
الاهتمام بالسينما المهاجرة
يؤكد المدير الفني إنتشال التميمي بأن المهرجان يضع نصب عينيه السينما الشابة، والسينما المهاجرة، والسينمائيين المهاجرين المقيمين في مختلف المنافي العالمية، لذلك فإن جل الإنتاج السينمائي العراقي في أوروبا وأمريكا واستراليا يجد طريقه الى المهرجان، ليس لأن المهرجان كبيراً وعظيماً ولا صنو له، وإنما نتيجة الثقة المتبادلة بين منظمي المهرجان من جهة، والمخرجين العراقيين من جهة أخرى. فالمعروف أن إنتشال التميمي يروّج للأفلام العراقية، ويقدمها الى أغلب المهرجانات المعروفة عربياً وعالمياً، ويكفي أن نشير هنا الى بعض المهرجانات التي إحتضنت السينما العراقية خلال السنوات الخمس الأخيرة مثل مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، والإسماعيلية، وقرطاج، ودبي، وأبو ظبي، وعُمان، ومهرجان العالم العربي في باريس، ومهرجان روتردام الدولي، وأمستردام، ومهرجان ألوان الأمريكي، ومهرجان باري الإيطالي، ومهرجان اليابان وسنغافورة والهند وعدد آخر من المهرجانات التي لا يسعنا ذكرها في هذا المجال. ولو تتبعنا الدورات السبع المنصرمة فسنجد أن حضور السينما العراقية واضح وملموس، والفضل يعود من دون شك لكل من التميمي وشوكات. ويمكن أن نورد بعض الأمثلة لتعزيز ما نذهب إليه. ففي الدورة الأولى عَرض المهرجان خمسة أفلام روائية ووثائقية وهي " الحارس " للفنان خليل شوقي، و " اليازرلي " لقيس الزبيدي، و " الأهوار " لقاسم حول، إضافة الى فيلم " شاعر القصبة " لمحمد توفيق، و " القطار " لقتيبة الجنابي. وقد كان المخرج المخرج قيس الزبيدي عضواً في لجنة التحكيم. وفي الدورة الثانية عُرضت ثلاثة أفلام وهي " سمفونية اللون " لقاسم حول، و " العُمق " لقتيبة الجنابي، و " جيان " لجانو روشبياني، وكان المخرج قاسم حوَل عضواً في لجنة التحكيم. أما في السنة الثالثة فقد عرض الفيلم الوثائقي المهم " إنسَ بغداد " لسمير، وكان المخرج عبد الهادي الرواي عضواً في لجنة التحكيم. اشتملت الدورة الرابعة على خمسة أفلام وهي " ناجي العلي، فنان ذو رؤية " لقاسم عبد، و " 16 ساعة في بغداد " لطارق هاشم، و " الرجل الذي لا يمل " لقتيبة الجنابي، و " الحرب " لمحمد الدراجي، و " صائد الأضواء " لمحمد توفيق وكان المخرج قاسم عبد رئيساً للجنة التحكيم. أما الدورة الخامسة فقد تضمنت ستة أفلام وهي " بغداد يلوغر " لسلام باكس، و " اللغة " لسمير زيدان، و " عراقيون والسينما " لخالد زهراو، و " العراق الى أين " لباز شمعون البازي، و " العراق موطني " لهادي ماهود، والفيلم الروائي " غير صالح للعرض " لعدي رشيد. وكان ضمن لجنتي تحكيم الأفلام الروائية والوثائقية كل من المخرجة ميسون الباججي، والناقد عدنان حسين أحمد. أما الدورة السادسة فقد إشتملت على ستة أفلام أيضاَ وهي " بورتريه للغائب " لحميد حداد، و " حاجز سوردا " لقاسم عبد، و " مُلوِّن في زمن الحرب " لكاظم صالح، و " أيام بغدادية " لهبة باسم، و " العراق أغاني الغائبين " لليث عبد الأمير، و الفيلم الروائي " أحلام " لمحمد الدراجي. وفي الدورة السابعة عُرضت ثلاثة أفلام وهي " عبور الغبار " لشوكت أمين كوركي، و " إشارة " لسعد الزبيدي، و " مراسل بغدادي " لقتيبة الجنابي، إضافة الى فيلم " أم سارة " للمخرج جيمس لانغلي، وكان الفنان نصير شمّة عضواً في لجنة التحكيم. يا ترى، ما الذي يمكن أن يفعله إنتشال التميمي للسينمائيين العراقيين بصورة خاصة وللسينما العراقية بشكل عام؟ أليس من الإجحاف أن يقال عنه أو عن زميله شوكات " بأنهما لا علاقة لهما بالسينما من قريب أو من بعيد! " متى يمكن أن نقول عنهما بأنهما مهمومان بالسينما؟ لقد أمضيا في الحقل السينمائي العملي نحو عشر سنوات حيث إختارا نحو " 450 " فيلماً روائياً ووثائقياً على مدى ثماني سنوات لمهرجان الفيلم العربي في روتردام. كما شاهدا المئات من الأفلام في المهرجانات العربية والعالمية ولم يفلت منهما أي مهرجان سواء في اليابان أو الهند أو سنغافورة أو براغ أو باريس أو كراكوف أو روما أو نيويورك أو دمشق أو القاهرة أو قرطاج أو دبي وسواها من المهرجانات المعروفة. ألا تخلق المشاركة في هذه المهرجانات ذائقة بصرية شديدة الحساسية؟ ولو تجاوزنا موضوع الانحياز الى السينما العراقية أو التونسية، أو محاولة النيل منهما، لا سمح الله، كما يدعي البعض، فإن ثقة المهرجان قد امتدت الى أغلب البلدان العربية بما فيها مصر والجزائر والمغرب وسورية ولبنان ودول الخليج العربي حيث يتوافد نجومها بإستمرار الى أروقة المهرجان ويكفي أن نذكِّر بأن يحيي الفخراني، وسميرة عبد العزيز، وليلى علوي، ولبلبة، ونور الشريف، وسناء موزيان، وأنيسة داوود، وسميحة أيوب، وأحمد السقا، وعزت العلايلي، وسامي العدل وعشرات المخرجين العرب قد حلوا ضيوفاً على هذا المهرجان، والغريب أن أحدهم إدعى بأن المهرجان لا يستضيف سوى الشخصيات المتقاعدة في إشارة الى كبر سنهم. يا ترى، متى كان كبر السن عيباً؟ خلاصة القول إن الجهود التي يبذلها كل من خالد شوكات وإنتشال التميمي وفريق العمل المؤازر لهم هي كبيرة بحق، وقد أسسَت لمهرجان سينمائي يستقطب كل عام نحو ستين ضيفاً جلهم من الفنانين والمخرجين ونقاد السينما والتقنيين والإعلاميين العرب. تحية لهذا الفريق المثابر، ولنشد على أيدي الزميلين شوكات والتميمي اللذين يستحقان التحية والتكريم بدل الإساءة والتجريح.




كتابات

 

سدني پولاك : القسم الثاني












القسم الثاني

(پولاك مخرجاَ)

"أنا لم أخترْ أن أكون مخرجاً سينمائياً على الإطلاق. الغريب أنني تعلمت فن الإخراج في الآخِر، أي، بعد أن أصبحت مخرجاً!. وهكذ فقد حدث الأمر معي بشكل معكوس إلى حد ما".
سدني پولاك


علي كامل: لندن
ــــــــــــــــــــــــ


(1)

(رحلة پولاك من التلفزة إلى السينما)


يزعم سيدني پولاك أنه وصل هوليوود بـطريقة "عشوائية"، وذلك حين دعيَ يوماً من قِبل أحد أصدقائه وهو المخرج (جون فرانكينيمر) للعمل معه كمدرّب حوار مع ممثلين أحداث في أول فيلم روائي طويل له بعنوان "الفتيان المتوحشون"، هناك حيث سيلتقي وجهاً لوجه بالممثل النجم برت لانكستر الذي كان يلعب دور البطولة في ذلك الفيلم،ذلك اللقاء الذي سيّغير مجريات حياته تماماً.
يقول پولاك متذكرا ً:
"... كنت أريد الإختباء والبقاء بعيداً، إلا أنني كما بدا لي حينها كنت قد إجتذبت إنتباه برت لانكستر وفضوله كما بدا حينها. لقد أراد في البدء أن يسخر مني وحاول إحراجي أمام الجميع. لكن، وعلى الرغم من كونه نجماً لامعاً كبيراً ورجلاً مخيفاً، إستطعت شيئاً فشيئاً الإقتراب منه حتى صرت أتحدث معه فيما بعد بين الحين والآخر. حين إنتهى تصوير ذلك الفيلم إستدعاني لانكستر إلى مكتبه وقال لي:
"لماذا تعمل هكذا كالحصان محاولاً أن تكون ممثلا ً؟ ينبغي عليك أن تكون مخرجا ً".

وهكذا إستطاع بيرت لانكستر حقاً حينها تحويل إنتباه ذلك الشاب المفعم حيوية وحماسة من الوقوف أمام الكامير كممّثل بدلاً من الوقوف خلفها كمخرج.
"... وحين قلت له إنني لاأعرف شيئاً عن الإخراج" يضيف پولاك: "رفع الهاتف وإتصل حالاً بلويس واسرمن مدير ستديوهات يونيفيرسال بيكتشر ومالكها آنذاك ومحتمل أن يكون الرجل الأكثر نفوذاً يومها في هوليوود، وقال له:(لويس، يوجد معي هنا في مكتبي صبي، لاأعرف حقاً إن كان بمقدوره أن يكون مخرجاً، لكنه كما يبدو لي أنه شخص موهوب، لذا أريد منك أن تجلس معه وتتحدث إليه... في كل الأحوال، لن يكون أسوأ من من هؤلاء المتطفلين الذين يعملون لديك الآن)".
وهكذا فتح برت لانكستر بوابات هوليوود أمام هذا الشاب المتحمس الذي سيصبح فيما بعد أيقونة هوليوود الفريدة، وسيصبح الإثنان منذ تلك الفترة من أكثر الأصدقاء قرباً وحميمية، وستأتي الأعوام القادمة القليلة ويشاء القدر ليلعب لانكستر البطولة في ثلاثة أفلام لپولاك وهي:Swimmer / Uncredited ) Castle Keep / The ).

ويضيف پولاك قائلاً:
"لم يذهب لانكستر إلى أي معهد فني لدراسة التمثيل. كان واحداً من أطفال شارع هارلم المشاكسين، والذي غادره فيما بعد لينضم إلى العمل في السيرك. صحيح أنه لم يفقد جذوره كطفل شارع، إلا أنه كان يقيم إعتباراً مهيباً لأي نوع من أنواع الفن كالرسم والنحت والأدب...إلخ. شيء آخر كان يميزّ لانكستر عن غيره هو أنه كان لايتردد مطلقا ً في تبنيّ وتقديم العون للفتيان المبتدئين تواً في العمل السينمائي، وأنا كنت واحدا ً منهم".

***

(التلفزيون هو بمثابة معهد السينما الحقيقي بالنسبة لي)

يعتبر پولاك أحد أهم المخرجين السينمائيين بين مجاييله، وهو الذي لم يذهب إلى معهد سينمائي ليتعلم فن الإخراج، إنما أمضى سنواته المبكرة داخل وهج ستديوهات الشاشة الصغيرة، هناك حيث سيتعرف على أدواته التقنية والفنية عن كثب، وهناك ستتبلور طاقته وموهبته ليمكنه أن يلج فضاءات أرحب.
بدأ پولاك عمله في التلفزيون "ممثلاً" منذ أواسط الخمسينات حيث ظهر لأول مرة في دور صغير في فيلم كوميدي بعنوان "هذه العتمة مضيئة بما فيه الكفاية" تبعه في دور رئيسي في فيلم آخر مقتبس عن رواية همنغواي (لمن تقرع الأجراس) أخرجه جون فرانكينيمر، ومن ثم تابع عمله مع هذا المخرج كمدرّب للمّمثلين في برنامجين تلفزيونيين شهيرين كانا يعالجان موضوعات متنوعة ومختلفة وهما: (Playhouse 90) و (Turn the screw).

إن الخبرة والمراس التي إكتسبهما پولاك من كل تلك الأعمال قد أعدّاه لولوج ميدان إخراج البرامج التلفزيونية لأول مرة، حيث أصبح يصور حينها مايقرب العشرين برنامجاً تلفزيونياً في العام الواحد، ما قاده في ستينيات القرن الماضي إلى أن يتبوأ بجدارة موقع أبرز المخرجين في مجال المسلسل التلفزيوني، ولعل أشهر مسلسلاته تلك هي: "بن كيسي" الشهير (1961) الذي شاهدناه أواسط الستينات من على الشاشة الصغيرة في بلداننا العربية. ومسلسل "المرتشون" The Corrupters (1961). ثم توالت من بعد مسلسلاته الأخرى أمثال: Naked City "المدينة العارية" و "Dr Keldar" و "الفريد هيتشكوك يقدّم" 1955 – 1965، و "الهارب" The Fugitive، و"بوب هوپ يقدم مسرح كريسلر" 1963 – 1967، المسلسل الذي نال عنه جائزة إيمّا للإخراج الدرامي عام 1966.

أما مسك ختام تلك المرحلة فهو مسلسله "المدافعون" The Defenders 1960 – 1965.

يقول پولاك:
"التلفزيون كان بمثابة معهد السينما الحقيقي بالنسبة لي. هناك أصبحت مخرجاً وهناك تعلمت مالم أتعلمه في أي معهد آخر. لقد فهمت أسرار الكاميرا وإمكاناتها وعرفت كيفية التصوير والمونتاج".
على إثر ظهور فيلمه السينمائي الأول The Slender Thread أو "الخيط الرفيع" عام 1965، كتب شابلن يومها في جريدة لوس أنجلوس تايمز مستشهداً به وبمخرجين شابين آخرين هما إليوت سيلفرستين الذي ظهر فيلمه Cat Ballon في ذلك العام، وستيورارت روزنبرغ الذي أصبح شهيراً بعجالة مباشرة بعد ظهور فيلمه Cool Hand Luke عام 1967، بإعتبارهم نموذجاً للمخرجين الذين وظفوا عملهم في التلفزيون منبرا ً ومختبرا ً لتعّلم وإتقان حرفتهم السينمائية.(*)

***

(نزاع المتضادات)

يُصّنف پولاك المخرجين السينمائيين إلى فئتين، الأولى ويمثلها أولئك الذين يعرفون الحقيقة ويريدون إيصالها إلى العالم. أما الفئة الثانية فيمثلها أولئك غير الواثقين تماماً من الإجابة الصائبة على السؤال الأساسي، لذا تجدهم يصنعون أفلامهم كأسلوب لمحاولة المعرفة. و پولاك يدرج إسمه ضمن الفئة الأخيرة هذه.

يمكن تقسيم أفلام پولاك إلى درامات ذكورية وميلودرامات نسوية إذا جاز هذا التصنيف:
الأولى، تتجسد في أفلام مثل: (صيادوا فروات الرأس، سجن القلعة، جيريميا جونسون، أيام كوندور الثلاث، و ياكوزا). أما البطل النموذجي فيها فهو شخصية متوحدة إنعزالية تفتقد الثقة بالأخر، يسهم ماضيها في كبح سير حاضرها، إلا إنها وعبر مسار القصة تنهض من كبوتها لتستعيد تلك الثقة المفقودة بالأخر وتستبدل عزلتها بعلاقة منفتحة جديدة.
أما الميلودرامات النسوية فيمكن أن تتجلى في أفلام مثل (الخيط الرفيع، المِلكية المدانة، الحياة التي عشناها و حقل الخوف). معظم الشخصيات النسوية في هذا الصنف من الأفلام هن غالباً مثقفات يمتهن مهناً محددة ذات شأن ويحتفظن بقوة أخلاقية مميزة على الرغم من أن الكثير منهن يصبحن في معظم الأحوال ضحايا لضعفهن العاطفي. يقف پولاك على الدوام إلى جانب الشخصيات النسوية الصارمة الجريئة والشجاعة بمن فيهن دوروثي مايكل التي يلعبها دستن هوفمان في "توتسي" وهو يجرّب معرفة ماذا يعني أن تكون رجلاً يتنكر برداء إمرأة. أما الشخصيات الرجالية التي ترتبط بعلاقة بهن فهم ليسوا حمقى أو أغبياء كما يحب البعض أن يصفهم بل هم مجرد أناس مثبطين وخاسرين.

إن المحور الأساسي الذي تدور حوله جّل أفلام پولاك هو النزاع القائم بين المتضادات، وهو الفنان المغرم بتصوير تلك المتضادات بكل أنواعها، والتي يمكن تحديدها بالنحو التالي:
العنصرية: مجسدة بالتمييز بين البيض والملونون، كما في أفلام مثل (الخيط الرفيع، صائدوا فروات الرأس، جيريميا جونسون).
الدينية: ممثلة في الصراع بين البروتستانت واليهود، كما في فيلم (الحياة التي عشناها).
الجغرافية: في التفاوت بين المدينة والقرية، كما في فيلم (الملكية المدانة) و فيلم (الفرس الكهربائي).
القومية: متجلية في النزاع بين أوربا وأمريكا، أو بين الشرق والغرب، كما في فيلم (سجن القلعة).
ـ وأخيراً، التمايز بين الجنسين، كما في فيلم (توتسي).

اما على صعيد بناء الفكرة فنجد أن معظم حبكات أفلامه تتخذ لها منحىً دائري، فغالبا ماينتهي الحدث مثلما إبتدأ. ويتكرر هذا المظهر بشكله البصري في فيلمه"إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟" مجسد في حلبة الرقص الدائرية، وكذلك في أفلام مثل "الحياة التي عشناها" وفيلم "جيرميا جونسون" وسواها.

كان پولاك من بين كل مجاييليه، أحد أبرز ليبراليي هوليوود، فقد عالجت أفلامه، كما أشرنا إلى ذلك في القسم الأول، أهم قضايا العصر، فقد كشفت تلك الأشرطة عن جوهر الأستغلال الإجتماعي والسياسي والأقتصادي المّنظم بمفهومه الجمعي. ولعل أهم تلك "الثيمات" مشكلة التمييز العرقي كما في فيلمه صائدوا فروات الرأس "The Scalphunters" أو الموقف المضاد للحرب كما في فيلم سجن القلعة "Castle Keep"، أو الأزمة الأقتصادية العالمية التي تجسدت في ثلاثة من أفلامه: إنهم يصطادون الجياد، أليس كذلك؟ "They Shoot Horses, Don’t They?"، الحياة التي عشناها "The Way We Were" و قائمة هوليوود السوداء "Hollywood’s blacklisting". أما الثيمة التي تناولت بشاعة الأستغلال التجاري والإعلامي فقد تجّلت في فيلميه: الفارس الكهربائي "The Electric Horseman" وغياب الحقد "Absence of Malice".

وبجرأته المعهودة كشف پولاك عن إزدواجية السياسة الأمريكية ممثلة في عدوانية متوحشة وديموقراطية زائفة، من خلال سبر حقيقة نشاط وكالة المخابرات المركزية في فيلمه أيام كوندور الثلاث "Three Days of the Condor". أما دعوته للمساواة بين الرجل والمرأة فقد تجسدت في معالجته الساتيرية في فيلمه الكوميدي الشهير "توتسي". (1)

لم يتبع پولاك أسلوباً فنياً محدداً، إلا أنه في العموم يعتبر أبرع مخرج في رواية القصص السينمائية، فقد أنجز خلال أربعة عقود أفلاماً متنوعة الثيمات متباينة الأساليب (دراما، أفلام تشويق ميلودرامية، كوميديا، بل وحتى أفلام رعاة البقر وسواها). عموماً يمكن القول ولم يكتفي بهذا بل ذهب في سنواته الأخيرة إلى خوض تجربة الفيلم الوثائقي بعمله الرائع "سكيشات فرانك جيري" الذي يتحدث فيه عن صديقه الفنان المعماري الأمريكي الشهير فرانك جيري، وهو الفيلم الأخير الذي أنجزه قبل رحيله.

أما فيما يتعلق بمفهوم الفيلم السياسي فثمة شيء يميز پولاك ربما عن الكثير من المخرجين. فهو يرى مثلاً، أن جميع الأفلام سياسية، طالما هناك نزاع قائم في مركز الثيمة، بإعتبار أن الصراع هو المفتاح الأساسي لكل فيلم. الفارق الوحيد بين تلك الأفلام في نظره هو أن البعض منها أكثر براعة من سواه في إسلوب معالجته للثيمةالسياسية. إنه يوضح وجهة نظره هذه بقوله:" إن كل فيلم تعالج ثيمته الوشائج الإنسانية هو فيلم سياسي. فإذا إفترضنا مثلاً أن هناك إمرأة جالسة في غرفة إنتظار في مكتب ما، ودخل تلك الغرفة رجل وجلس قربها، فهذه وضعية سياسية. لو أراد ذلك الرجل التدخين مثلاً، فهل سيطلب منها أن تسمح له بذلك، أم سيشعل السيجارة دون إذن؟ هذه سياسة.
أما الأفلام التي تتناول موضوعاً سياسياً بحتاً والتي يطلقون عليها تعبير"أفلاماً سياسية" فهي تلك التي تتحدث عن القضايا السياسية بشكل مكشوف ومعلن، والتي يكمن نجاحها فقط في قدرتها على حجب تلك الثيمة السياسية داخل تلافيف القصة التي يفترض أن تستحوذ على الإنتباه.

أنا لا أعتبر نفسي واعظاً أخلاقيا ولست ممن يشغل مركزاً أو إنتمائلً سياسياً. كلا، أنا لا أريد أن أكون لاهذا ولاذاك. ما أريده في عملي هو قبل كل شيء أن أبعث البهجة في نفس المتفرج. فإذا أخفقت في تحقيق ذلك، فإن الفيلم سيخفق حتماً".

پاتريسا إيرينس مؤرخة الفيلم تتحدث عنه قائلة:"پولاك بالنسبة لي هو آخر أمهر مخرجي الأستديوهات، وهو السينمائي الذي بوسعه أن يُخرج فيلماً عن أي شيء! وقد فعل ذلك بالفعل، فقد أخرج أنماطاً متعددة من الأشرطة السينمائية كأفلام الغرب الأمريكي المبكرة وأفلام الحركة والتشويق، والميلودرامات والكوميديا وقصص الحب. لقد أنجز پولاك الكثير من الأفلام الألقة دون أن يقع في فخ تكرار الكليشهات الهوليوودية التقليدية، وقد منح أفلامه تلك ثقلاً مميزاً عن طريق توجيهها صوب منعطفات ومسارات غير متوقعة".

***


(إنني أنحت لأن لديّ فضول لمعرفة السبب الذي يجعلني خائباً)

جياكوميتي


پولاك ليس بمؤلف، وغالباً مايكرر جملة "أنا لست كاتباً"، إلإ أنه مع ذلك كثيراً ما يتحدث عن السيناريو وبنائه، وغالباً ماكان يسهم في كتابة سيناريوهات أفلامه. إن إهتمامه الرئيسي ينصّب على مايسميه بـ "الفكرة الذهنية"، فهو يحس أنها ينبغي أن تكون في بؤرة السيناريو، ويعترف بإمكانية أن يبدو الطريق قاحلاً جداً لمعالجتها فنياً، إلا أن العمل على بلوغ ذلك وجعله ممكنا التحقيق هو بالنسبة إليه يمثل مفصلاً جوهرياً من عمل المخرج السينمائي. پولاك يماهي مابين بناء السيناريو ونحت التمثال، مؤكداً على ضرورة أن يكون الهيكل الأساسي للتمثال صلباً وثابتاً ومحكماً قبل إضافة الطين إليه.
السيناريوهات بالنسبة إليه رغم تباين ثيماتها ينبغي أن تتضمن على الدوام خطين رئيسيين يسيران بشكل متوازٍ حتى النهاية، أحدهما يمثل "الفكرة العامة" التي كثيراً مايوظفها المخرج كخلفية للخط الثاني الذي تحتله "قصة حب". وقصص الحب تحتل الموقع المركزي إن لم يكن الأخلاقي في أفلامه لأن مايشغل بال پولاك هو طبيعة الوشائج الإنسانية التي يُخضعها إلى المحك عبر قصص الحب تلك.. فهو يقول بهذا الصدد:
"إنني أعثر على الجدل، والنقاش، على الخلافات والإختلافات، كلها بطريقة ما، في قصص الحب، وهذا مايجعلني متشوقاً ومتحمساً لها. إنا أحب مناقشة الشيء الذي أجهله. ينبغي عليّ أن أكون منصفاً بين العشاق، بمعنى، أن لاأجعل من أحدهم مصيباً والآخر مخطئاً، بل جعل الإثنين على حق في طريقة محددة أضمّنها جدلاً أو خلافاً حقيقياً صعباً بالقدر الذي أستطيع. إنهما يتباحثان ويتناقشان فقط وهذا ما يقودهما في الآخِر إلى الإنفصال.

في كل فيلم أخرجه ينبغي أن تكون ثمة قصة حب في مركزه، إلا أنه حب خائب على الدوام، لأن أطرافه أناس يرون الحياة من زوايا متباينة ومتعارضة".
عموماً يمكن القول أن العلاقة التي تربط الرجل بالمرأة هي مثار دهشة پولاك وتساؤلاته دائماً وهي بالنسبة إليه بمثابة مجاز لكل شيء في الحياة.

في عام 1994 كان المخرج السينمائي البريطاني جون بورمان قد أجرى حواراً مع پولاك وطرح عليه السؤال التالي: (لماذا تنتهي علاقات الحب في أفلامك دائماً بخيبة أمل؟) أجاب پولاك:
"نعم، هذا صحيح. حين كنت صغيراً أتذكر أنني قرأت كتاباً كان يتضمن جملة مهمة قالها جياكوميتي مرة وهي:(إنني أنحت لأن لديّ فضول لمعرفة السبب الذي يجعلني خائباً؟). لهذا السبب بالذات كان جياكوميتي يواصل عمله كنحات.
يبدو لي، أن لديّ شيء من طريقة التفكير تلك، ولذا تجدني أواصل طرح سؤالي لمعرفة السبب الذي يجعل من الرجل أو المرأة أو الكائن الإنساني عموماً، ليس بمقدوره أن يشق طريقه في الحياة بشكل أفضل!. وهذه المسألة هي التي تجعل من الفيلم شيقاً وممتعاً".

(التمثيل هو الفعل وليس القول)


يشكل "التمثيل" العنصر الأساس من بين كل العناصر الفنية والتقنية للعملية الإخراجية بالنسبة لپولاك، وهو التقنية الوحيدة التي تعلمها عبر دراسته للدور المسرحي، والتي أصبحت فيما بعد بمثابة المنطلق الأساسي لعمله الإخراجي في السينما. بمعنى آخر، كان پولاك يُخرج كل شيء من منطلق كونه "ممثل"، على حد قوله. إلا أنه يميز في الوقت نفسه ما بين مهمات الإخراج المسرحي والسينمائي فيما يتعلق بشأن علاقة المخرج بالممثل. ففي هذا الصدد يقول:

"في ميدان الإخراج المسرحي تتلاشى تبعية الممثل للمخرج، لأنه حالما ترفع ستارة المسرح ونصبح وجهاً لوجه مع الممثل يصبح هو وحده سيد الخشبة. أما المخرج فلم تعد له فائدة تذكر في هذه المرحلة. لهذا السبب تجد الأهمية القصوى في عمله تنصّب سلفاً على مرحلة الپروفات. العملية نجدها معكوسة تماماً في السينما، فحالما ينتهي التصوير، ينتهي معه دور الممثل ودور الكاميرا.. إلخ.. وكل شيء يصبح من مهمة المخرج والمونتير فقط، حيث يرتكز العمل كله على قدرة المخرج في تقطيع تلك اللقطات المنفصلة لأداء الممثلين ووضعها في سياقها المنطقي للفكرة. لذا يبدو لي أن المخرج السينمائي هو بحاجة إلى ممثلين أكثر تبعية له قياساً بالمخرج المسرحي".

أما منهجه كمخرج في العمل مع الممثل فهو يتعارض مثلاً ووجهة نظر المخرج السينمائي ستانلي كوبريك، فكوبريك يؤكد على التمسك بالأداء والتدريبات الكثيرة والمكثفة للممثلين قبل التصوير، فيما يقلل پولاك من أهمية ذلك على الرغم من كونه ممثل!. فهو يعتقد مثلاً أن التدريبات لاتثمر سوى العادي والمألوف، لذا تجده يشعر أنه بدلاً من ذلك ينبغي أن تستثمر العديد من الساعات في نقاش وجهات النظر حول القصة والسيناريو والموقف من الأداء مع الممثل..إلخ..
إن إصراره على عدم الإكثار من التدريبات سببه السعي إلى خلق المناخ الذي من خلاله يمكن للحوار أن يتدفق ذاتياً، ولعاطفة المشهد أن تتفجر تلقائياً.
الخبرة التي إكتسبها پولاك عبر كل هذه السنين هي من جعله يقلل شيئاً فشيئاً من مقدار التمرينات مع الممثل، لإنه أصبح يشعر بثقة كبيرة نسبياً بشأن معرفته بما يريد. ميزته في دقة إختياره لطاقم الممثلين،هي الوسيلة التي تجعله يعمل بحرية مطلقة سواء في موقع التصوير أو في غرفة المونتاج. أما إذا حدث وكان إختياره للممثل غير صائب، وهذا شيء نادر جداً بالطبع، فتراه يلجأ بطريقة ما إلى نوع من اللعب أو المخادعة. بمعنى آخر، عموماً في الحالات التي يكتشف فيها المخرج أن الممثل غير قادر على إعطائه ماينشد، يضطر حتماً إلى البحث عن ممثل آخر بديل. إلا أن البحث عن البديل في موقع العمل وأثناء التصوير الفعلي هو شيء قاس وصعب جداً، لذا تجد پولاك يمارس مخادعته تلك من خلال تغيير المشهد أو تعديله لاعبر البحث عن ممثل بديل، لإنه يعتقد أن وجود مشهد أقل شأناً، لكنه يستجيب للممثل، هو أفضل بكثير من مشهد أكثر شأناً لكنه لايستجيب له.
وحول عمله الروتيني مع الممثل، يقول پولاك:
"بسبب أنني لاأحب إجراء تدريبات للممثلين في موقع التصوير بحضور الآخرين، أحاول في البدأ أن أصرف الجميع عن موقع التصوير دون إستثناء.. حتى وإن كان هناك كلب أو قطة سأطلب بإخراجهم. أنت بحاجة أن تكون غريب الأطوار في بعض الأحيان!.
بعدها أحاول وبشكل مستميت أن يصدقني الممثل حين أطلب منه أن "لايعمل أي شيء". هكذا. نبدأ بعمل "لاشيء"، لذا ينبغي أن لايكون ثمة إحساس ما بالوصول إلى شيء. نحن ببساطة نسير وفق منطق المشهد.
ما أقوله للممثلين هو التالي:
(لاتعملوا من أجل أي شيء. علينا أن نعرف المشهد ونستوعبه أولاً، أن نقرأه، كما لو أننا ذاهبون في نزهة داخل غاباته العاطفية، لنرى ماذا سنجد هناك!).

إذا أنجزتْ هذه العملية بشكل صائب ودقيق، فإن ماسيحدث هو أن الممثلين ليس بمقدورهم مطلقاً التوقف حينها دون عمل شيء ما، لأنهم سيقومون بفعل "شيء" حتماً. أما إذا بدئوا العمل بنوع من المغالاة فسأوقفهم في الحال. محتمل جداً أن أقول لهم التالي:
(لاتعملوا من أجل الأداء، بل دعو الأداء يحاول الوصول هو بنفسه إليكم، دعوه يسير لوحده على قدميه وبطريقته الخاصة).
ثم تأتِ المرحلة التي نبدأ فيها بتحفيز وإيقاظ عملية الأداء تلك. وهذه المسألة كلها لاتستغرق سوى عشرة دقائق تقريباً أو أقل ربما، لكنها في بعض الأحيان تستغرق الساعة ونصف الساعة!.

ينبغي على الممثلين أن يؤدوا كل شيء بطريقتهم الخاصة، وأن يعملوا أي شيء يريدونه. أما أنا فسألكزهم برفق للدخول إلى المكان المخصص لهم.

أعتقد أن من أكبر الأخطاء التي ترتكب في مجال الإخراج السينمائي هي الحديث أو العمل من أجل النتائج بدلاً من الأسباب. لأن ذلك هو أشبه بمخادعة. إنني أعرف من كوني ممثلاً، كم هو شيء صعب وقاس العمل بشكل مباشر من أجل النتائج.
كثير من المخرجين يقولون للممثل مثلاً:"كن غاضباً أكثر" أو " كن متضايقاً أكثر"، وهذا شيء غير معقول!.
الممثل الجيد يمكنه بالطبع تحقيق ذلك بيسر، إلا أن النتائج ستكون وخيمة على الفيلم. أما إذا قلتُ له مثلاً:"إن الشخصية التي تلعبها هي شخصية مثيرة للشك"، فسيبحث عن طرق عامة لأداء هذا الدور. لكنك لو قلت له:" أنظر إلى يده، لاحظ كيف تتجه نحو جيبه الأيسر، لأن ثمة مسدس في ذلك الجيب" أو أشياء من هذا القبيل، ففي هذه الحالة سيتعامل مع شيء ملموس ومحدد هو ـ المسدس ـ في مثالنا، والذي سيقوده في الأخر إلى القيام بـ "سلوك" لم يكن يتنبأ به حتى هو نفسه".

إن الكثير من مشاهد الحب في أفلام پولاك عادة ما تكون خالية من أي حدث، بل تكاد في معظم الأحيان تخلو تماماً حتى من كلمة واحدة، وهذا مايتجلى بشكل محدد في فيلمية "الحياة التي عشناها" و "خارج أفريقيا"، (الأول بطولة روبرت ريد فورد وميريل ستريب، والثاني بطولة ريد فورد أيضاً وبرباره ستريساند).

السؤال الأكثر أهمية هو: كيف يتم إنجاز مشاهد كهذه، وكيف ُتعالج، وليس ثمة من شيء يقال أو حوار يتبادله العشاق في لحظات كهذه. بمعنى، كيف يهيىء پولاك ممثله لأداء مشاهد كهكذه؟

يجيبنا پولاك عن ذلك قائلاً:"إنه شيء يصعب توضيحه. إن طريقتي في التعامل مع الممثل هي أنني لاأتحدث معه بحضرة ممثل آخر مطلقاً. فبعد قيامنا بعمل الپروفة الأولى وجلب الكاميرا إلى مكان التصوير وقيامنا بتحديد مواقع الكاميرا وحركة الممثلين، أطلب من جميع الممثلين الذهاب إلى غرفة الماكياج أو غرفة الملابس. حسنٌ، نحن الآن في مرحلة لم نخدش سطح المشهد بعد حتى هذه اللحظة.

من عادتي التنقل بين غرف الماكياج والملابس أشبه بممسوس أجلس مع هذا الممثل أو ذلك كل على حدة. أنا لاأحب أن يكون معي أي شخص آخر سوى الممثل، أنا وهو فقط، لأعرف ماذا سيحاول فعله. إذا فكرّ أن أي شخص آخر غير المخرج يعرف بما سيقوم به أمام الكاميرا، فهذا الشيء سيولد لديه إحساساً بأنه مراقب، وأن هذا الشخص الذي يراقبه سيصدر حكما بشأن أدائه!.

تخيل أنك تقول للممثل في موقع التصوير، وأمام مجموعة من عمال الكهربة مثلاً:"إعمل ذلك بشكل أقوى.. أقوى أكثر". في وضع متوتر كهذا سيشعر الممثل بأن كل واحد من هؤلاء العمال كان قد سمع ماقاله المخرج له، لذا فإن كل واحد منهم بإنتظار ماسيقوم به الممثل من إستجابة، لرؤية هل سيؤدي ذلك بشكل أفضل أم لا؟.

بالنسبة لي، بدلاً من ذلك، أذهب إلى ذلك الممثل وأهمس له بهدوء على حدة قائلاً، مثلاً:(أنا لاأعرف كم سيكلفك هذا المشهد). عنئذ سيتطلع نحوي حائراً لبرهة قائلاً ربما:(ماذا تقصد؟). أقول:"حسنٌ. ماذا يكلفك أن تقول: مع السلامة؟). هذا الشيء يختلف تماماً عما تقوله له: أريد منك أن تقول (مع السلامة) بقوة.
عليك البحث عن شيء ما لتفعله، لأن ثمة "فعل" دائماً في المشهد. أما إذا إتكأت على النص فهذه مصيبة. أنا لايهمني إن كانت الكلمة التي سينطق بها الممثل مهمة أو مجانية، فهذا ليس هو الشيء الذي أبحث عنه. ما أبحث عنه حقاً هو شيء أشبه بطلي الكلمات بالدهان، والدهان هو بمثابة الحياة العاطفية للمشهد، والحياة العاطفية للمشهد يمكن أن تكون جاهزة دون نص. بعدها، حين تصب النص فيها، ستضفي هذه الأخيرة فعالية عاطفية على المشهد. لهذا تراني أجلس بعيداً دائماً من دون نقاش، محاولاً رؤية المشهد بمحتواه العاطفي.

نحن نقول دائما أن التمثيل هو الفعل، هو أن يتصرف الممثل بصدق تحت ظروف تخييلية. والنتيجة هي الوصول إلى ما (نفعل) وليس إلى ما (نقول).
أنا أبحث دائما عن الفعل في المشهد فيما يتعلق بالتمثيل، لأنني أعرف سلفاً ماسيقوله الممثل وأعرف قصة الفيلم، لكن هذا ليس له علاقة بالتمثيل.
لقد عملتُ قصص حب كثيرة في أفلامي، وكان تعامل الشخصيات مع بعضها البعض شيء محسوس دائماً. هذا الإحساس بما يفكر به الشخص الآخر نحوك، والذي يحدث عادة بين العشاق، هو شيء مهم وحيوي. أنت تراقب أحد ما لترى في عيونه ماتفعله أنت".

صحيح أن پولاك يحب الحديث طويلاً مع الممثلين بشأن الشخصية والدور...إلخ، لكنه لايحب الإستغراق طويلاً في التدريبات معهم. بدلاً من ذلك تجده يحب الإكثار من التصوير. هذا لا يعني بالضرورة أن طريقته صائبة وطرق المخرجين الآخرين غير صائبة، لأن ثمة أفلاماً رائعة قام مخرجوها بتدريبات كثيرة جداً مع الممثلين قبيل التصوير، ولعل كوبرنيك أحدهم.

پولاك يعتقد أن التدريبات مع الممثل هي عملية ذات صبغة مسرحية، ولذا فهو لايفضلها كثيراً في عمل الفيلم، لأنه لايؤمن بوجود شيء إسمه "تمثيل"، إنما هناك فقط تدريبات محددة على لقطات محددة. واقع الأمر أن إحدى الأسباب التي تجعله يقلل من شأن التدريبات تلك هي خشيته من إحتمال أن يؤدي الممثل دوره احياناً بشكل جيد أثناء التدريبات ويفشل في تحقيق ذلك أثناء قيامه بالتصوير الفعلي.

(كيف يمكن أن تحول دون أن يصبح المشهد "سينمائياً"!؟)

في إخراجه للأفلام الميلودرامية ذات الطابع التشويقي كان پولاك كثيراً ما يسائل نفسه:"ترى، هل بوسعي أن أحول، قدر الإمكان، دون أن يصبح المشهد "سينمائيا"ً!؟ وإذا ما تحقق مثل هذا الشيء، ماذا سيحدث؟" ثم يجيب قائلاً:
"إن رؤوسنا مليئة بالكثير من كليشهات الأفلام السينمائية التي يصعب تجنبها. لذا ينبغي إتخاذ الحيطة والحذر. مايتبغي عليك القيام به هو شيء يشبه أن تمنع نفسك من النوم وأنت تقود سيارتك. بمعنى، ينبغي عليك أن تواصل صفع وجهك بالكف كي تكون مستيقظاً. إنني أشعر بشيء كهذا لاسيما حين أقوم بإخراج أفلام تشويق وإثارة حيث الكليشهات تزداد حقاً.
إذن، ينبغي علي أن أواصل صفع وجهي، قائلاً:"كيف يمكنني أن أحول دون أن يصبح المشهد (سينمائياً)"؟.

إن الشيء الذي أبحث عنه دائماً هو أكثر خطورة وهلعاً من ذلك. فأنا لاأظن أبداً أن بوسع الأفلام إثارة الخوف في نفس المتفرج بالقدر الكافي قياساً بضخامة الهلع الذي يصيبنا في حياتنا الواقعية نفسها.
أنت تطلب من الممثل الشيء المستحيل تقريباً حين تريد منه محاكاة شيء ما بشكل واعٍ، لأننا نعرف من خلال علم النفس أنه حين يتحوّل اللاوعي إلى وعي، فهذا يفضي إلى أن الأول سيتوقف عن العمل. وهذا هو الأساس الذي شيّد عليه فرويد نظريته بشأن الهستريا. لأن الأشياء التي حدثت للمرء سببها هو أنه لم يكن يعي ماكان يحدث في لاوعيه، ونحن نعرف أن العاطفة، الإحساس أو الشعور، هي ثمرة اللاوعي. فأنت حين تطلب من الممثل محاكاة شيء ما فإن ذلك الشيء سيعمل بشكل أفضل لو أنه يحدث في اللاوعي. لهذا السبب أعتقد أن الشيء الأكثر قساوة وصعوبة من ذلك هو أن تطلب منه الإسترخاء أحياناً، مثلاً. لماذا؟ لأنك لاتستطيع أن تتحرر من التوتر العصبي عن طريق الإسترخاء!.
ما ينبغي عليك عمله لكي تكون في حالة إسترخاء هو القيام بفعل من شأنه أن يفصل إنتباهك عنك أنت نفسك بطريقة محددة.
كثيراً ماتجد أن التباين بين الممثل الجيد والممثل الرديء هو أن الأول يعرف إنه لايمكن الحصول أو الوصول إلى العاطفة، الإحساس، الشعور، مهما فعلنا من أشياء، بإستثناء الإعتماد على الظروف والوقائع أو على الممثل الآخر.
فإذا حاول الممثل العمل مع تلك العاطفة والتأثير عليها بنفسه، فستظهر بشكل زائف إلى حد ما، وهو الشيء الذي يفضي إلى أداء رديء.
الممثلون الجيدون حقاً هم أولئك المنصتون بشكل لايصّدق. إنهم يدركون تماماً أن أساس الأداء يكمن، إلى حد ما، في الإنتباه والإصغاء إلى الممثل الآخر، لاسيما إذا كان هذا الآخر الذي معه هو عنصر أساسي في المشهد.
روبرت ريدفورد هو مثال لكل ماقلته عن الممثل الحقيقي. إنه يُصغي ويستجيب للمشهد وللممثل الاخر بشكل كامل، بل يمكنك قراءة هذه الأشياء كلها في ملامح وجهه، فهو على الدوام يجرب المشهد لأول مرة ولا يعرف ماسيحدث بعده.

الممثل الجيد هو من سيستجيب بشكل حقيقي وصادق حتى إلى الفروق الطفيفة في أداء الممثل الآخر، دون أن يحاكي طريقته في الأداء بالطبع.
يمكنك دائماً رؤية الممثل الردىء، حين يغير الممثل الآخر (أعني شريكه) طريقته في الأداء تماماً، فستجده يحاول تقليلد تلك الطريقة أو عمل الشيء ذاته.
إنني أقول للممثل في بعض الأحيان:
"سأخرج شريكك الآخر في المشهد من هذه الغرفة وعليك أن تستأنف العمل مثلما أنت، لوحدك. أنت الآن لاتتعامل مع شخص آخر". حدث هذا مرة وقلته لتوم كروز ونحن نصور فيلم (الشِركة).
إذا إستطعت في بعض الأحيان أن تجعل الممثل يرّكز على طريقة أداء شريكه فقط، لا أن يقلده، فإن ذلك هو ما سيجعله في حالة إسترخاء حقيقية".


***











فيلموغرافيا

سدني پولاك (1934 ـ 2008 )



The Slender Thread (1965)
This property Condemned (1966)
The Sclaphunters (1968)
Castle Keep (1969)
They Shoot Horses, Don’t They? (1969)
Jeremiah Johnson (1972)
The Way We Were (1973)
The Yakuza (1975)
Three Days of the Condor (1975)
Bobby Deerfield (1977)
The Electric Horseman (1979)
Absence of Malice (1981)
Tootsie (1982)
Out of Africa (1985)
Havana (1990)
The Firm (1993)
Sabrina (1995)
Random Hearts (1999)
Sketches of Frank Gehry (2005)
Documentary
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لسبب يتعلق بطول حجم هذا القسم فقد إضطررت إلى إلحاق العرض الموجز لأفلام پولاك بالقسم الثالث وهو الأخير.

مراجع ذات صلة:

(*) إنترناشينال هيرالد تربيون. نيويورك. 27 مايو (آذار) 2008

(**) فينسيا مگازين: يونيو (حزيران) 2006 لقاء أجراه أليكس سيمون مع بولاك

(***)
Acting Is Doing
Sydney Pollack in conversation with John Boorman. Page59.
Projections 3
Film-makers on Film-making
Edited by Boorman & walter Donohue 1994

(****)
Class Moviemaker’s Master:
Private lessons from the world’s foremost directors. 2002 By
Laurent Tirard

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

علي كامل
مخرج سينمائي وكاتب
(لندن)
alikamel50@yahoo.co.uk

القسم الثالث يتبع وهو بعنوان (پولاك مربياً وموجهاً)


 

انتهى من تصوير فيلمه بعكازي حديد



انتهى من تصوير فيلمه بعكازي حديد ...

المخرج العراقي عماد علي: أنا موجود في فيلمي رغماً عني


فجر يعقوب


ربما كان يكفي المخرج العراقي الشاب عماد علي أن يتجول بكاميرا رقمية خفيفة في شوارع بغداد ليصور فيلمه (شمعة لمقهى الشهبندر)، وأحياناً وحيداً ومن دون رفقة المصور حتى، ليتعرض لمحاولة اغتيال بشعة كادت تودي بحياته سوف نشهد عليها في تفاصيل فيلمه (23 دقيقة)، خاصة وأنه خرج من فيلمه إلى رفيقين جديدين له في الحياة لا يتعديان كونهما عكازين من الحديد.

وفي التفاصيل التي يرويها عماد في فيلمه، وقد جلس أمام الكاميرا دامع العينين، إذ ان «هول المأساة رهيب»، وبعد أن يمر بالكاميرا الخفيفة على ضيوف فيلمه من رواد شارع المتنبي ومقهى الشهبندر الذي تحول إلى أطلال وركام يقول: «لقد تعرض بيتي لهجوم بالهاونات من قبل الجماعات المسلحة، وسقطت ثلاث قذائف هاون عليه ما أحاله إلى ركام، ولتنفجر أسطوانات الغاز ما جعل منه كتلة لهب هائلة احترق فيه أبي وزوجتي».ويتذكر المخرج العراقي كيف طغى تفجير شارع المتنبي «شارع الثقافة والكتب» على آلامه الشخصية، خاصة أن صاحب المقهى وثلاثة من أبنائه قضوا أيضاً في التفجير الإرهابي الجبان.ويقول علي في فيلمه وهو ممدد على السرير يتابع تغيير ضمادات جرحه: «بعد تدمير بيتي بثلاثة أشهر تعرضت لمحاولة اغتيال من قبل مسلحين مجهولين، أطلقوا النار على ساقي، ثم في صدري. ولولا شجاعة فتاة عراقية قامت بإيقاف سيارة لتنقلني إلى المشفى لصفي دمي في الشارع».وعماد علي الذي اعتاد رفقة العكازين يقول رداً على تساؤل حول إمكان عمل فيلم مستلهم من شيء شخصي: «ما هو واضح لي منذ البداية هو أنني لم أرد أن أضمن الفيلم جوهر الحادثتين، اللتين تعرضت لهما، ولكن شئت أو أبيت وجدت نفسي في خضم الحدث نفسه، والمخرج قاسم عبد الأستاذ في كلية السينما والتلفزيون المستقلة، وهو الجهة المنتجة لفيلمي هو من اقترح أن أدخل الحادثتين في نسيج الفيلم، لأن الحادثتين اللتين تعرضت لهما كانتا بسبب الفيلم نفسه. وأنا ترددت كثيراً في البداية لأنني لا أبحث عن استعطاف الناس. لقد أردت أن أروي قصة مقهى الشهبندر من دون التطرق إلى مأساتي الشخصية. ولكن الذي حدث هو محاولة إيصال رسالة للعالم ليعرف الطريقة التي يعمل فيها المخرج العراقي، وقاسم عبد هو من نصحني بإيصال هذه الرسالة بهذه الطريقة».
ويقول علي حول إبقائه الفيلم بهذه الحالة التي خرج فيها إلى النور ليدور على بعض المهرجانات ويحظى بتعاطف وبعض الجوائز: «عندي ساعة كاملة مصورة لم أستخدمها من قبل لأنها ضاعت أثناء نقلها من بغداد إلى دمشق من أجل انجاز العمليات الفنية في العاصمة السورية، ولكن بعد ذلك عثرنا على هذه المادة وسوف أعمل من جديد على مونتاج الفيلم مرة أخرى، خاصة وأنها مادة غنية مصورة عن المقهى لحظة تفجيره، فيما المواطنون يقومون بعليات الإنقاذ والإطفاء».ويضيف علي، متأثراً أن ضياع هذه المادة في البداية لم يمنعه إطلاقاً من إخراج فيلمه، «نحن نعيش ونعمل في ظروف استثنائية، وبالتالي ليس هناك ما يمنع من تصوير ربع فيلم أو نصف فيلم، فما يمر به العراق يحتاج إلى توثيق كل دقيقة منه، خاصة أن عدم تصوير الأفلام لأي سبب من الأسباب سوف يعني بطريقة ما أن العصابات الإرهابية هي صاحبة الشأن في بلادنا».يذكر أن «شمعة لمقهى الشهبندر» حظي بالجائزة الثالثة في مهرجان الخليج السينمائي الأول، ما سمح لصاحبه بالبقاء فترة أطول للعلاج في مدينة دبي، فساعد كثيراً في التخفيف من حجم آلامه وإعاقته في شكل كبير.

الحياة

الخميس، 11 سبتمبر 2008 

العطر روايةً وفيلماً


أسطورة السرد وواقعية السينما
- العطر روايةً وفيلماً -
ماجد موجد

لم يكن (ميلان كونديرا) يقصد تلك الروايات التي تتحدث عن الطبقات الاجتماعية أو فتنة الموضوعات ذات المنحى الرومانسي عندما قال ما معناه : ان الرواية ستفقد الكثير من مغزاها حين تتحول الى فيلم، لا سيما عندما اضاف لها وصف الرواية العظيمة، فهو حتما يقصد منها تلك التي تكون موضوعاتها تبحث في أسئلة كبرى ازاء الوجود الانساني وصراعات الذات للتعرف على مصيرها، مقولة كونديرا تلك ظلت عقبة أمام عدد من المخرجين في العالم كلما حاولوا الاقتراب من تلك الروايات ومنها على سبيل المثال رواية (العطر) للالماني (باتريك زوسكيند) وهو العمل الاول له، اصدره في العام1985 في السادسة والثلاثين من عمره فلم يكن قد كتب شيئا سوى مسرحيته الوحيدة ((عازف الكونترباس) مونودراما في فصل واحد في العام 1981 وأصبح فيما بعد صحافيا ناجحا، درس التاريخ في جامعة ميونخ وفاز في العام 1987 بجائزة غوتنبرغ.
يذكر ان روايته ترجمت الى اكثر من عشرين لغة ما لفت اليه انظار المخرجين ومنهم (مارتن سكورسيزي) و (ستانلي كويبريك) وقد فعلا المستحيل وهما يفكران في نقلها الى السينما، لكن طبيعة الرواية وتناولها لأفكار قد تبدو مجردة تسبح في الخيال كما بدا لهما ما (جعل من مهمة التحويل مهمةً صعبة بل أقرب إلى الاستحالة،) الأمر الذي جعلهما يصرفان النظر عن خوض مثل هذا التحدي العسير.


1


بقيت الرواية بعيدة عن السينما حتى العام 2001 حين اشترى الممثل (داستن هوفمان) حقوقها بمبلغ كبير كان نصيب كاتبها (زوسكيند) فقط قد بلغ عشرة ملايين يورو، وقد أوكلت مهمة إخراج الفيلم الى المخرج (توم تايكوير) مواطن (زوسكيند) حين اقتنع بقدراته بأنه سيفلح بايصال فكرة الرواية التي اتخذت ثيمتها الأساس من حاسة الشم، اذ يرى متخصصون ان هذه الحاسة من الحواس الشائكة في طبيعة عملها وهم الى الآن لم يتعرفوا بعد على الكيفية التي تجعل الانسان يفرق بين عشرة آلاف رائحة بمستقبلات كيميائية تجاوزت العشرة ملايين مستقبل، وبحسب أحدهم وهو يلقي محاضرة عن هذه الحاسة التي تعد مهملة في العناية بها: أننا في الخطوة الاولى في الألف خطوة نحو معرفة اسرار الأنف. ولكن أحقا أن (زوسكيند) كان يريد أن يسترعي انتباهنا الى حاسة الشم وقدراتها على تفحص الروائح والعطور أم كان يريد أن يدلنا على فكرة أخرى وهي مختبرات تلك العطور والروائح من خلال استعراضه لاعداد كبيرة من المواد الخام التي تدخل في صناعتها حتى كأن روايته اطلس لمختبرات الروائح، وهل هاتان الفكرتان هما فقط ماجعل مخرجين مهمين ان يتوخوا الحذر كثيرا ثم يعدلوا عن الشروع في نقلها الى السينما. قد تكون حاسة الشم وعملها في تحسس العطور واحدة من المفاصل المهمة، لكنها ابداً لم تكن الفكرة الأساس ذلك ان هذه الرواية كل مفصل من مفاصلها يبدو معقدا، بل ان كل مفصل هو فكرة تحتاج لوحدها ان تبحث وتخرج بوصفها فيلما حسب تقييم عدد من المخرجين الذين وجدوا صعوبة في اخراج الرواية كاملة في فيلم واحد وهو ما نجح بفعله البارع (توم تايكوير) فعلى الرغم من انه استطاع ان يجعل المشاهد يتشمم العطر والروائح من شاشة العرض لكنه ايضا مرَّ على الزخم الكبير من الافكار التي تريد الرواية ايصالها عبر ســــرد ووصف دقيق في اكثر من مائتين وخمسين صفحة، في سيناريو قصير للغاية لا يتعدى صفحتين او ثلاث اذا ما استثنينا التعليقات التي كانت تردم بها بعض الفــراغات التي عجزت الصورة عن نقلها لكنها، أي الصورة، تمثلت اغلب مفاصـــل الرواية بشكل عجيب.

2


براعة في الاخراج وبراعة في الاداء المدهش الذي اداه الممثلون لاسيما دور البطل الممثل الانكليزي الشاب (بينيدكت ويشاو، المرعب في امكان تحوّله الى حيوان بشري) ادى الدور وكأنه هو ذاته تلك الشخصية الاسطورية الواقعية بطل الرواية (جان باتسيت غرينوي ) وأحسب أن(زوسكيند) كان مندهشا وهو يشعل كفيه بالتصفيق يوم شاهد الفيلم فوجد الشخصية هي هي كما كان يريدها بالملامح والأداء والتوصيل.فالجميع يعرف ان هناك فرقا كبيرا في أداة التوصيل بين عمل مقروء يتعامل فيه الكاتب مع ذهنية القارئ في رسم الكلمات واحالاتها ودلالاتها لايصال المضمون، ومن ثمة تبدو القراءة او القارئ سيصل الى الصورة التي يعنيها فيه ذهنه وثقافته في رسم الاحداث وماورائها وغاياتها، وبين مشهد مصور لايختلف على تأويله كثيرا، كأن الفلم هنا يقرأ ويأول نيابة عن جميع قراء العمل المكتوب بل حتى نيابة عن الكاتب ذاته، لاسيما ونحن أمام عمل كما ذكرنا آنفا مليء بالمفاصل التي تعج بالاحالات والتأويلات التي لا حصر لها، فهي تشغل القارئ في فكرة وتتحدث هي عن فكرة أخرى غير ماتعنيه تماما.اكثر ماكانت تعول عليه الرواية/ الفيلم هي ثيمة قد تبدو هامشية مقارنة بالالحاح الذي يبدو في مفاصل الثيمة العامة (حاسة الشم) الا وهي ثيمة ربما مستقاة من مقولة شهيرة لـ(جان جاك روسو)، من يفسد الآخر او يغيَّره.. الفرد أم المجتمع؟ هذه العبارة هي التي بدت مفصلا مهما لمحاولة الراوي والمخرج معا لفك ملابساتها التي لم تفك وانما عرضت طرفي المشكلة من جديد ولكن بشكل اكثر شذوذا وتعمقا ومأساوية وجمالا ايضا، انها حكاية اولئك الذين ما انفكوا يطلقون اسئلة كبرى حول وجود الانسان وقصته العجيبة والمحيرة الى حد الهذيان عما يمكن ان يكون عليه وما هو مصيره في عالم يشتد غرابة وعجزاً عن الفهم.


3


تتحدث الرواية عما اسماه احد النقاد برواية الشخصية أي ان الشخصية هنا هي بوصلة العمل، الشخصية النموذج، في كل مجريات الحدث وليس الاعتماد على مجريات الاحداث لاخراج طبيعة الشخصيات المشاركة او الابطال، انها تعتمد الشخصية كقيمة فنية باستغراقها في الاختلاف مع النسق الإنساني المعتاد واتجاهها الدائم لاختراق العالم من فضاءاته الأكثر غموضاً وتعقيداً، في محاولة مستميتة لكشف حقيقة النوازع الإنسانية في أقصى تجليات عمقها، كما يفعل هنا(زوسكيند) في روايته العطر المثيرة للجدل ويبدو انه وهو الذي درس التأريخ بعناية قد تعرف على خيوط قصته من احد مسارحه المهمة وأعني هنا بشكل خاص تأريخ فرنسا، فحكاية الرواية تعود الى الوضع المتردي الذي كان يعيشه المجتمع الفرنسي في العام 1938 والمستشري فيه آنذاك العرف الطبقي ولكن هل تكون ثيمة الرواية المهتمة بحاسة الشم مبتكرة لتتلاءم مع بلد عرف بصناعة العطور؟ تبدأ الاسطورة/ الرواية /الفلم بمشهد لشخص غريب الأطوار ومقيد بالاغلال في سجن قديم ويبدو عليه عدم الاكثراث ولا تكاد عيناه تركزان على شيء ما، حتى يخبره احد السجانين انه على وشك ان ينفذ فيه حكم الاعدام، تذهب الكاميرا ( فلاش باك)بعد ذلك الى اكثر المناطق قذارة وهو سوق لبيع السمك اقيم على مقبرة جماعية تعود الى حروب غابرة في مدينة باريس حي"مونمارتر" وسط شارع "أوفير" وفي يوم حار جدا، وداخل أتون من الروائح العفنة واللاذعة التي تنطلق من كل مكان ولد "جان باتيست غرنوي"، (خرج من بطن أمه مثل قطعة لحم منزلقة على بقايا لزجة واحشاء الأسمـاك،) وكأن والدته اختارت له مصير أخوته الأربعة الذين ولدوا بنفس الطريقة وماتوا تحت الطاولة دون أن يشعر بهم أحد، (فالمنظفون في آخر النهار لم يميزوا بين الأجنة البشرية الحمراء وبين خياشيم الأسماك وبقاياها الدامية،) ولكن "غرنوي" الرضيع الذي شرب وابتلع وتنشق كل روائح باريس العفنة في ذلك النهار، أعلن عن وجوده الصارخ من خلال البكاء المتواصل والحاد، وكان هذا البكاء كفيلا بإرسال والدته إلى المقصلة.


4


كان غرنوي ذو المسامات الملساء عديمة الرائحة قد دُسَّ في وجهه انف غريب وعجيب للغاية في قدرته على الشم والتمييز بين الروائح كل الروائح (فلم يعد يشم الخشب فحسب، بل أنواع الخشب، العتيق والطازج والهش والمتعفن والطحلب،) يعرف رائحة الاجساد لجميع المخلوقات بل انه يتعرف على الأخلاق من خلال أنفه يعرف اللص والغبي والكاذب والذكي، يعرف رائحة الفلاح صباحا والقس مساء لكنه وهو الذي بلا عطر يُذكر، ظل يبحث عن رائحة لجسده هي رائحة الحياة نفسها التي تظل أقوى وأجمل من أية رائحة أخرى تنبعث من العالم الذي يعيش فيه.(حياته لم تكن أكثر من وجود حيواني غارق في ضباب كثيف يغلف معرفته بذاته، لكن هذا اليوم بالتحديد هو الذي جعله يدرك أخيراً هويته الحقيقية، أي أنه عبقري، لا ريب في ذلك، وأن لحياته معنى ومقصداً وهدفاً ومصيراً علوياً،) ـ الرواية ـ أنه الوحيد في العالم الذي يمتلك الوسائل لتحقيق ذلك، أنفه ذو الحساسية المتميزة، ذاكرته الخارقة، والأهم من كل ذلك عبق الفتاة التي كانت تبيع الخوخ وراح يتعقبها في شارع (دي ماريه) وهو يحاول ان يدس انفه ليتشممها ولكن بعد ان سمع خطوات احد المارة وضع اصابعه على فمها ليتبين انها فارقت الحياة، لم يندهش كثيرا بل كل ما فعله هو انه راح يتشمم جسدها كله، كانت هذه اولى الخطوات التي جعلته يقتل اثنتي عشرة فتاة من أجل ان يسلخ رائحة اجسادهن بطريقة مشمئزة ويقطرها بعد ذلك في مختبر خاص وفرته له احدى النساء المعنيات بصناعة العطور دون ان تعلم بجرائمه، لكنه دون أن يعثر على الرائحة التي شغلته كثيرا ربما هي رائحة الفتاة بائعة الخوخ التي اصبحت نموذجه في اكتشاف عطره الالهي او المقدس او عطر الحياة او ربما هو ذلك العطر الذي تحدث عنه صانع العطور الذي عمل معه في باريس اذ قال له: (إن الفراعنة تمكنوا من استخراج ثلاث عشرة رائحة، منها اثنتي عشرة رائحة أمكنهم تحديدها، ومعرفة خصائصها، أما العنصر الثالث عشر، فلم يستطع أحد الوصول إليه رغم أنه كان أهمهم،) ـ الرواية ـ ولأنه لم يصل الى عطره الذي كان يبحث عنه على الرغم من قتله ذلك العدد من الفتيات كان لابد له من قتل ضحيته الثالثة عشرة. (وهي أجمل فتيات مدينة جراس وابنة أكثر تجار العطور ثراء ونفوذاً ). كما أنها كانت تشبه في ملامحها الطفولية الرقيقة وشعرها الأحمر المشتعل حول رأسها فتاة السوق التي لم يستطع نسيانها.


5


تعود الكاميرا الى المشهد الاول الذي هو ذاته يمثل المفصل ماقبل الاخير من الفلم اذ يخرج غرينوي من الزنزانة التي يرقد فيها مكبلاً بالحديد، ويسوقونه وسط صراخ وتهليل عشرات الآلاف من سكان المدينة الذين تجمعوا ليشاهدوا صلبه، وحينما يتابع الجميع بما فيهم اغنياء القوم واهل الضحايا ورئيس أساقفة الكنيسة على شرفة عالية. وحين يهدؤون عند سماع الحكم والبداية بالاعدام يُخرج غرينوي قنينة صغيرة مليئة بعطره الذي استخرجه من اجساد الفتيات ليصب منه نقاطاً على منديل أبيض يُلوح به على رؤوسهم وما ان يصل العطر الى انوفهم وأفئدتهم حتى تتغير الحال تماما اذ تصبو الانظار كلها الى غرينوي بمودة ودهشة غامرة ومن ثم يذهب الجميع لتبادل القبل والعناق وشيئا فشيئا يبدؤون بالتعري تماما، الجميع يمارس الجنس مع بعض، الاجساد كلها تصبح عبارة عن جسدين شاذين او غير شاذين ليرتفع اللهاث والهسيس (ويقف رئيس الأساقفة رافعاً ذراعيه ناطقاً إنه ملاك، بل إله، وليس إنساناً مثلنا...) تحت هذا التأثير الالهي الساحر الذي انغمر به الجميع، يستطيع غرينوي ان يهرب الى باريس المكان الذي ولد فيه بلا رائحة تحت طاولة بيع السمك ووسط الصياح والروائح القذرة تلك يفرغ ما تبقى من عطره على جسده وملابسه وما هي الا لحظات حتى يتجمع حوله كل من كان في السوق وتضيق الدائرة وتضيق، واذا ما انفضوا من حوله لم يجدوا شيئا فقد التهموه من شدة الحب الذي غمرهم به عطره الغريب، وكأن هذا المشهد من الفيلم يريد أن يُؤكد ما جاء في بعض فقرات الإنجيل حول تضحية عيسى بجسده من أجل إنقاذ البشرية جمعاء. كما يؤكد اكثر النقاد الذين تناولوا الرواية /الفيلم، فكما هي عادة الحقب المظلمة والعصور الداكنة فإن ظهور "المخلّص" أو "كائن النور" هو ظهور مشفوع بغـرابة وعزلة وشطحات سلوكية طالما ارتبطت بشخصية هذا "المخلّص" وطالما وضعته في الجهة المضادة من الأعراف العامة والطقوس الجماعية وللمعتقدات المتداولة والمتوارثة فلا شيء جديداً الا بموت القديم.و من سحر هذا الكائن البشري ، و (بنوازعه الخطيرة والطاهرة في آن والموزعة بين صورتي الوحش والملاك)، هذه العجينة الغريبة من تعدد الوعي والمشاعر اتجاه الوجود من هذا النقيض المربك والممزق والحافل بالحقائق والشعوذات والجمال والقبح والفراديس والمهالك، خرجت رواية "العطر" (الحابسة للأنفاس كي تحدث الصدمة الحسيّة والروحية المزلزلة التي لامست القراء المذهولين في مختلف أرجاء العالم)، رواية كان على السينما أن تتلقفها باكرا، (ولكن "زوسكيند" نفسه لم يكن على قناعة بقدرة الرواية على نقل الرائحة إلى أنف القارئ، فما بالك بالصورة السينمائية)، ولكن هذا ما استطاع فعله المخرج (توم تايكوير) بل نجح الى حد بعيد من تقريب الاسطورة المكتوبة الى واقع مشاهد فما كنت تتشممه ذهنيا في مدار خيالك بين الحروف وانت تقرأ الرواية جاءت مشاهد الفلم لتردم هوة الشك بيقين انك تشم كل عطر ورائحة من خلف الشاشة وقد تفطر قلبك لتدرك انه مامن خير مطلق ولاشر كذلك وما الفرد والمجتمع الا كلاهما يصنع الآخر.

عن الصباح العراقية

 

سدني پولاك : أيقونة الزمن الجميل



سدني پولاك:(أيقونة الزمن الجميل)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(حين رأيته في آخر مرة قبل أسبوعين، أدركت أنه يحتضر. كان صوته خفيضاًهذه المرة، وكان يعرف أن ليس هناك منفذاً ً آخر. ومع ذلك، ظل مبتسماً ً )
النحات والفنان المعماري فرانك جيري


علي كامل
لندن

هكذا ينتهي كرنڤال الحياة ليبتدأ طقس الموت. لقد إهتزت أركان مملكة هوليوود بغتة حين خفتَ ضوء أحد مصابيحها لتحّل العتمة.
في ظهيرة يوم الإثنين الموافق السادس والعشرين من شهر مايو (آيار) الماضي أعلنت وكالات العالم وفاة المخرج (الممثل والمنتج) السينمائي الأمريكي سدني پولاك (73 عاماً) في منزله في لوس أنجليس محاطاً بزوجته الممثلة كلير گريسود (50 عاماً) وإبنتيه ربيكا وراتشيل وشقيقه بيرني پولاك. في تلك اللحظة وفيما كان مهرجان كان السينمائي يستأنف برامجه، خيمّت لحظة صمت مشوب بالحزن والحيرة إثر سماع خبر رحيل الشاهد الأخير على ذلك الزمن الجميل.
برحيل پولاك إنهار ذلك الجسر الذي كان يربط بين حقبتين زمنيتين متباينتين لهوليوود. إنه المخرج والمنتج والممثل الملتزم وأحد أهم المحترفين المتكاملين في هوليوود لأربعة عقود.

لقد عالجت أفلامه أهم قضايا العصر وكشفت عن الأستغلال الإجتماعي والسياسي والأقتصادي المنظم بالمفهوم الجمعي، ولعل أهم الثيمات التي برزت في جل أفلامه هي موضوعة التمييز العرقي التي تجلّت في فيلمه صائدوا فروات الرأس "The Scalp hunters" أو الموقف المضاد للحرب كما في فيلم سجن القلعة "Castle Keep" أو الأزمة الأقتصادية التي تجسدت في ثلاثة من أفلامه: إنهم يصطادون الجياد، أليس كذلك؟ "They Shoot Horses, Don’t They?"، الحياة التي عشناها "The Way We Were" وفيلم قائمة هوليوود السوداء "Hollywood’s blacklisting". أما الأستغلال التجاري والإعلامي فقد ظهرت بشاعته عارية في فيلميه: الفارس المكهرب "The Electric Horseman" وغياب الحقد "Absence of Malice".
كشف پولاك أيضاً وبجرأته المعهودة، عن عدوانية السياسة الأمريكية من خلال فضحه لنشاط وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في فيلمه أيام كوندور الثلاث "Three Days of the Condor". أما دعوته للمساواة بين الرجل والمرأة فقد برزت في فيلمه الكوميدي الشهير توتسي "Tootsie" الذي لعب دور البطولة فيه ديستن هوفمان.

على الرغم من أنه كان يحب أن يطلق على نفسه لقب "سيد الإتجاه السائد"، إلا أنه كان بمثابة الوسيط المعتدل أو حلقة الوصل بين صرامة الجيل التقليدي وراديكالية الجيل المجددّ. بمطالبه العنيدة في أن تكون الأفلام جادة، ساحرة، ملتزمة، عاطفية وبارعة، وفوق كل ذلك أن تحترم الجمهور وُتحترم من قبله بالضرورة، كان قد رسخ تقاليد فنية وأخلاقية للأجيال القادمة.


***

(القسم الأول)


پولاك ممثلاً!

("التمثيل"هو القاعدة التي شيدت عليها نفسي كمخرج سينمائي)

سدني پولاك

ولد سدني پولاك في الأول من يوليو 1934 في مدينة لافاييت في إنديانا، وكانت عائلته تتحدر من الجيل الأول للمهاجرين اليهود الروس. كان والده يشتغل أجيراً في إحدى الشركات التي تنظم مباريات للملاكمة من أجل تسديد قسط دراسته في كلية الصيدلة.
"كان والدي ملاكم شبه محترف يعمل لصالح شركة تسمى (هوسير بير) والتي كانت تنظم مباريات ملاكمة محدودة ومتواضعة. كان يحلم في أن يكون طبيباً لكنه لم يكن يملك المال الكافي لتحقيق ذلك الحلم، لذا فقد حصل على شهادة علمية بالصيدلة بدلاً من ذلك."
كان أمل الأب أن يذهب ولده سدني أيضاً إلى معهد الطب ليصبح طبيب أسنان لكنه لم يستطع تأمين أجور دراسته. أما الشاب پولاك فقد أضطر إلى ممارسة الملاكمة هو الآخر لكنه لم يعول على هذه المهنة في تسديد قسطه المدرسي.
"كنت أذهب لأعمل في الجمباز وكنت أرتدي نظارات طبية" يتذكر پولاك: "لم أكن أستطيع الرؤية بشكل كاف لأرّد اللكمات. كنت أرى تلك اللكمات فقط حين تكون قريبة من وجهي".

لم يكن بولاك جاداً أو طموحاً إزاء مهنة كهذه، إلا أن ثمة شيئاً آخر له علاقة بحياة المدينة الصغيرة "ساوث بيند" التي إنتقلت عائلته إليها فيما بعد، كان يسبب له الضيق: "إنها مدينة صغيرة ساحرة، إلا أنني كنت أحس بنوع من الضيق والضجر فيها".
توفيت والدته في سن مبكرة (37 عاماً)، بسبب إدمانها على الكحول. كان عمر بولاك سبعة عشر عاماً حين أكمل دراسته الثانوية، يومها قرر مفاتحة والده بمقترح:" قلت له، إمنحني سنتين فقط. سأوفر مبلغاً من المال لإني أحب الذهاب إلى نيويورك. لقد كنت أرى تلك المدينة المدهشة فقط في الأفلام.
أخيراً أخذت قطاراً ًوسافرت، وحالما وصلت عرفت إنني كنت قد إتخذت القرارالصائب. وحين سرت في الشارع شعرت أنني في الأقل في مركز شيء ما ذو شأن. هناك إلتحق بولاك بمعهد التمثيل الذي كان يديره أستاذ التمثيل الشهير البروفيسور سانفورد ميسنر(*).

كان بولاك شاباً عصامياً فقد كان يوفر قسط المعهد من عمله في شاحنة لنقل الأخشاب خارج أوقات الدوام. أما نشاطه الإبداعي فقد لوحظ وبإهتمام شديد من قبل أستاذه ميسنر منذ عامه الأول، فبدأ يظهر في عروض مسرحيات مهمة في المعهد وكان في نفس الوقت يدرس الرقص تحت إشراف مارثا گرام. لقد قام ميسنر بتشغيل هذا الشاب الطموح مساعداً له في قسم التمثيل وهو مازال في السنة الثانية لدراستة في المعهد. يقول بولاك:

"ميسنر هذا قلب كل موازين حياتي. لقد فتح عينّي على كل شيء. كان عمري تسعة عشر عاماً حين بدأت أدرّس التمثيل معه!. كنت أحضر في كل صفوفه. ماكنت أفعله، ومن دون أن أعرف حقاً، هو أنني كنت أتعّلم أسس فن الأخراج أيضاً. أنا شخص محظوظ حقاً لإنني قد تتلمذت على يد أفضل أستاذ في العالم.".
كان ميسنر بمثابة المرّبي والمعلم الحقيقي بالنسبة لبولاك، وكان له تأثير كبير على حياته بشكل خلاق، فقد تعلم على يديه تقنية التمثيل كإستجابة للممثل الآخر وليس كإداء آلي. هذه التقنية التي ستصبح القاعدة الصلبة لتقنيته الأخراجية فيما بعد.
أظهر بولاك وبسرعة أنه يمكن أن يكون مدرّباً حقيقياً للتمثيل في محاكاته لتقنية ميسنر، وقد تتلمذ على يديه أشخاص أصبحوا فيما بعد نجوماً كبار أمثال الممثل روبرت دوڤال وبريندا ڤاكارو ورپ تورن وزوجته كلير گريسويل وسواهم.

كانت تقنية ميسنر مشتقة من منهج ستانسلافسكي في عمل الممثل على الدور، وكان يعمل إلى جانبه مجموعة من الأساتذة العظام الذين كانوا ينهلون من ذات المنهج، وهم ستيلا أدلر، ستراسبورغ، هارولد كلارمن وبوبي لويس. كان لكل منهم بالطبع أسلوبه الخاص والمبتكر في التطبيق، إلا أن الذي كان يوحّدهم جميعاً هو تلك المبادىء الأساسية التي كان يتبعّها مسرح موسكو الفني الذي كان يديره ستانسلافسكي آنذاك. لقد كان هدفهم واحداً دائماً، وهو إيجاد طريقة لتحليل بناء السلوك الحقيقي للشخصية ضمن الظروف التخييلية. ولقد سعوا جميعاً إلى أن يجعلوا المتفرج يصّدق ويؤمن بما يراه، وهذا بالفعل هو كل ماكانوا يحاولونه.

إن المرحلة التي أمضاها بولاك مدرساً ومدرباً في معهد التمثيل وقبل أن ينتقل للعمل في التلفزيون ومن بعد إلى السينما، قد إمتدت من عام 1954 ـ 1960 تخللتها فترة عامين أكمل فيها خدمته الإلزامية في الجيش الأمريكي.
في الرابع عشر من شهر أبريل (نيسان) عام 2005 كان بولاك في ضيافة معهد الفيلم البريطاني في ساوث بانك (لندن) لمناقشة فيلمه "المترجم" مع الجمهور، وكان يدير ذلك اللقاء صديقه المخرج السينمائي البريطاني ومدير معهد الفيلم آنذاك أنتوني ميگيل، والذي توفي قبل رحيل پولاك بأشهر.
لقد كان سؤال ميگيل يتمحور حول "هل ينبغي على المخرج بالضرورة، أن يكون هو نفسه ممثلاً لكي يكون قادراً على توجيه الممثلين؟" وكانت إجابة پولاك هي بالشكل التالي:
"حسنٌ، معظم أفضل المخرجين الذين أعرفهم هم ليسوا ممثلين ومع ذلك لاأظن أن ذلك ضروري في أي حال.
كان التمثيل بالنسبة لي هو بمثابة الرصيد الوحيد الذي أمتلكه حين إبتدأت. ولم أكن أفكر بالأخراج يومها أبداً. أعني، لم أستطع حتى أن أتخيل ماذا يعني الإخراج؟ أو ماذا يشبه أن تكون مخرجاً!؟.
الشيء الوحيد الذي كنت أمتلكه حين بدأت الإخراج هو التقنية التي تعلمتها إلى حد ما من دراستي للدور. وهذا هو بمثابة الدرع الواقي بالنسبة لي. كنت دائماً أقول لنفسي وأنا أفكر في تمثيل الدور:
"عن أي شيء يتحدث هذا المشهد؟ عن ماذا تتحدث هذه المسرحية؟ من أنا؟ ماذا أريد؟ لماذا أريد هذا؟ ماهي علاقتي الخاصة والمحددة بالممثل الآخر؟
كل هذه الأسئلة والتي لها شأن بالتمثيل أصبحت بالنسبة لي قاعدة صلبة للإخراج، وهكذا وبطريقة ما صرت أخرج كل شيء من منطلق كوني ممثل. وأنا أحاول عمل ذلك بالقدر الذي أستطيع، حتى وإن كان ذلك مع المصّور نفسه إذا شئت.
عليك بالتأكيد أن تحدّث الممثلين عن الشخصيات، عن الملابس والديكورات وكل ذلك. كم بوسعي أن أحدثك عن الشخصية، عن المكان الذي تعيش أو الملابس التي ترتديها أو الأشياء المعلقة على الجدران أو ماذا يوجد في الأدراج وأشياءأخرى سواها.
هذه الأشياء جميعها تحّولت إلى تقنية إخراجية بالنسبة لي، لكن كل شيء إبتدأ مع التمثيل. وأنا على الدوام أفكر بذلك، وفي كل مرة أدخل في نقاش مع مدير الأستديو أو شخص ما... لنقل المنتج مثلاً، على الرغم من أنني من النادر جداً أن أعمل مع منتج آخر لإنني كنت أنتجت الكثير من أفلامي المبكرة بنفسي . المهم، متى ما تحدث هؤلاء، أتذكر دروس التمثيل القديمة مع إستاذي العظيم ميسنر الذي كان يقول للممثل:"عن أي شيء يتحدث هذا المشهد؟" ويجيبه الممثل" حسنٌ، إنه يتحدث عن حقيقة أنني بحاجة إلى مبلغ من المال لأسافر وأرى والدتي المتوفاة" وبعدها يقول ميسنر:"حسنٌ دعني أراك تمثل أنك بحاجة لهذا المبلغ لتسافر. هيا، أريني وأنت تمثل ذلك"،
ولم يكن الممثل يعرف ماسيفعل، لإنه غير قادر على تمثيله. لأن هذه الأشياء لاعلاقة لها بالتمثيل وليس لها علاقة بالمشهد. إنها مجرد حقائق.
عن ماذا يتحدث المشهد؟ هذا هو السؤال؟
لذا فقد كان ميسنر يواصل طرح اسئلته عليك لحين أن تصل إلى المرحلة التي تعي بها أنك غير قادر على التمثيل. وهذا هو الجانب الفكري من العملية والذي هو ليس له علاقة بالسلوك. ومن بعد ستدفعك تقنية ميسنر ولكن ببطء وصبر شديدين قول الشيء الذي يمكن أن يتحول حالاً إلى سلوك. وسيتواصل معك لحين أن تصل إلى المرحلة التي تقول فيها... "هذا هو المشهد، حيث ينبغي عليّ أن أفعل الشيء الذي أكرهه أكثر من أي شيء آخر في العالم. ينبغي عليّ المواجهة... إنه لشيء يربكني ويخجلني ويضايقني على نحو كبير أن أسأل هذا الرجل إعطائي مبلغاً من المال الذي أحتاجة لكذا... لأنني أكره ذلك ولا أتحمل ماينبغي عليّ فعله.." وبعدها يتحقق ماتريد.
هذه بالنسبة لي هي قاعدة التقنية الإخراجية التي أستخدمها. بمعنى أن كل ذلك جاء من التمثيل. أعني كل شيء كان مصدره تلك الدروس التي تعلمتها كممثل.".

يعتقد بولاك إن أهم الأعمال المشتركة التي حققها مع ممثلين محددين كانت مع الممثل روبرت ريدفورد. وقد سبق لهما أن لعبا معاً في فيلم مطلب الحرب "War Hunt" عام 1962.
"في ذلك الفيلم كان فرانسيس كوبولا يشتغل معنا مساعداً في الإنتاج ومهمته جلب الماء للجميع". يقول بولاك ذلك بقهقهة خفيفة.
لقد خطط بولاك وريدفورد يومها لعمل فيلم واحد آخر في الأقل معاً. "أعتقد أن كلانا مدين للأخر. إنه وقت خصب وجميل من فترات حياتنا. كنت أحب أن أعبّر عما تعلمناه وأين نحن الآن. سيكون ذلك شيئاً رائعاً، لكن الناس لايكتبون عن هذا النوع من الموضوعات للأسف الشديد.".
لقد عملا معاً وهما في الثلاثين والأربعين والخمسين من العمر وكبرا معاً. وقد لعب ريدفورد جل الأدوار الرئيسية في سبعة من أفلامه وهي على التوالي:

This property is condemned الملكية المدانة
The Way We Were الحياة التي عشناها
Jeremiah Johnson جيرميا جونسون
Three days of Condor أيام كوندور الثلاث أو ثلاثة أيام عصيبة
The Electric Horseman الفارس المكهرب
Out of Africa خارج أفريقيا
Havana هاڤانا

يعتقد بولاك أن كل أدوار ريد فورد في تلك الأفلام هي بمثابة تنويعات على نفس الشخصية، شخصية البطل الأمريكي الذي يعاني من صدع مستتر.
"من السهل العمل مع بوب" هكذا يحب پولاك أن يكنيّ ريد فورد، مضيفاً:"ليس عليّ أن أكون دبلوماسياً معه. أنا أعرف مايقدر ومالايقدر عليه. أعرف كل الألوان التي يمتلكها. لقد أثار إهتمامي ودهشتي بسبب تعقيده على وجه الحصر. كان يمتلك مظهر الفتى الذهبي، لكن ثمة شيئاً آخر معتم جداً كان يختبىء في أعماقه والذي كان يظهر خلال أداءه".
إن قائمة الأسماء التي صنع بولاك منها نجوماً هوليوودية طويلة، إلا إننا يمكن أن نذكر أبرزها وهم: برت لانكستر، روبرت ريدفورد، بربارة سترساند، ناتالي وود، جين فوندا، روبرت ميتشم، آل باتشينو، داستن هوفمان،سيريل ستريب، توم كروز، هاريسون فورد، نيكول كدمان.. وسواهم.
على خلاف الكثيرين من المخرجين السينمائيين من مجايليه، كان بولاك ممثلاً تلفزيونياً وسينمائياً وقد إستطاع أن يوظف هذه الخبرة المميزة ليصوغ من خلالها علاقة إستثنائية مع نخبة من ألمع نجوم هوليوود، وليصنع أفلاماً هي من أفضل الأفلام التي شاهدناها في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
كمّمثل، لعب پولاك أدواراً كثيرة لمخرجين آخرين، لعل أفضلها تلك التي لعبها في الفلمين "الأزواج والزوجات" للمخرج وودي ألن، وفيلم عيون مغلقة على إتساعها "Eyes wide shut" لستانلي كوبريك. وقد عّلق على ذلك حينها قائلاً:" ببساطة كان لديّ فضول أن أعرف عن قرب كيف يشتغل هذان المخرجان"!. وسنراه فيما بعد يلعب دور المحامي الشرير المعسول اللسان في فيلم الممرات المتغيرة "changing lanes" للمخرج روجر ميتشيل، الدور الذي برع حقاً في أدائه. وقد لعب دورين مميزين آخرين في فيلمين أحدهما لروبرت ألتمان وهو بعنوان اللاعب "The Player" ، والأخر الموت يحّل هنا "Death becomes Her" للمخرج روبرت زيميكيس.
أما الفيلم الأخير الذي شارك فيه پولاك ممثلاً ومنتجاً في ذات الوقت فهو فيلم "Michael Clayton" إلى جانب الممثل جورج كلوني وهو من إخراج توني جيلروي عام 2007، والذي حاز على سبعة جوائز أوسكار.



عن تجربته المميزة كممثل مع ستانلي كوبريك يقول پولاك:
"إن أحد الأسباب التي تجعلني أستمتع بالعمل بين حين وآخر كممثل هو ليس حبي الكبير للتمثيل، لأنني ببساطة غادرت هذه المهنة منذ وقت طويل. إنما هو لأنني أحب أن أستطلع خلسة رؤية ما يفعله المخرجين الآخرين. المخرجون عادة لايدعون الآخرين بالتواجد في موقع التصوير. بوسع الممثلين الفوز بفرصة كهذه، أعني رؤيتهم لعمل الممثلين الآخرين ورؤية عمل المخرجين في ذات الوقت. لذا فإن فرصة مشاهدة ستانلي كوبريك وهو يعمل، أو وودي ألن، كانت بالنسبة لي بمثابة شيء لايقاوَم. أو... هذا هو جزء من السبب الذي دعاني لئن أمّثل معهما.
كيف يمكنني أن أصف كوبريك؟ إنه شخص فذ حقاً، نوع نادر من الرجال. إن الشخص الكامل بشكل حقيقي الذي لم ألتقِ بنظير له طوال حياتي هو كوبريك، إنه ذلك الأنسان الخلاق حيث لاوجود لمحدودية الأشياء في قاموسه، ولامحدودية للشيء الذي تريد الوصول إليه لحين أن تقتنع. إنها السعي في المواصلة من دون كلل لحين الحصول على ماتريد.
فحين يُسأل كوبريك عن المدة التي سيستغرقها تصوير لقطة ما مثلاً ، تكون إجابته واحدة دائماً وهي:"إنه سيستغرق الوقت الذي يتطلبه"، يقول ذلك من دون أن يتزحزح قيد أنملة!.
لقد كان إنساناً عنيداً حقاً. أنا شخصياً وجدت ذلك شيء لايحتمل. فليس بإستطاعتي تحّمل إعادة تصوير لقطة واحدة 80 أو 90 مرة. في المشهد الذي كان يصور فيه توم كروز وكان عليّ الظهور معه في ذلك المشهد أعاد ستانلي اللقطة مئة مرة. كدت أجن. لقد أردت الهرب. لكنني مع ذلك كنت مفتوناً بطريقته.

حين لايعجبه الأداء يطلب منك الجلوس أمامه ليقوم هو بتمثيل الدور. ويظل هكذا في نزاع معك لأسابيع وأسابيع. إنه شيء أشبه بالكابوس. لقد بدأت أهلوس حينها، لكن ستانلي كان شخصاً عبقرياً.
لقد كنت أتصل به تلفونياً بإستمرار حين تواجهني مشكلة ما في تنفيذ لقطة ما أو مشهد ، وكان هو يسارع بكرمه الفائض والمعتاد بقوله:(هل جربت أن تفعل كذا؟) ولايكتفي بذلك، بل سيتصل بعد أيام ليعرف إن كنت قد حسمت حل المشكلة أم لا. لقد كان ستانلي رجلاً عظيماً حقاً".(**)

***

فيلموغرافيا

سدني پولاك (1934 ـ 2008 (



The Slender Thread (1965)
This property Condemned (1966)
The Sclaphunters (1968)
Castle Keep (1969)
They Shoot Horses, Don’t They? (1969)
Jeremiah Johnson (1972)
The Way We Were (1973)
The Yakuza (1975)
Three Days of the Condor (1975)
Bobby Deerfield (1977)
The Electric Horseman (1979)
Absence of Malice (1981)
Tootsie (1982)
Out of Africa (1985)
Havana (1990)
The Firm (1993)
Sabrina (1995)
Random Hearts (1999)
Sketches of Frank Gehry (2005)
Documentary

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


هوامش:

(*) سانفورد ميسنر (1905 ـ 1997)
هو أحد أهم أساتذة التمثيل البارزين في القرن العشرين . لقد أسس هو وستيلا أدلر ولي ستراسبيرغ وهارولد كلارمن فرقة مسرح "گروپ" في عام 1931 لحين توقفها عام 1941 لأسباب مالية. إلتحق ميسنر في عام 1935 بمعهد التمثيل "بلايهاوس نايبرهوود" في نيويورك ليكون مسؤولاً عن قسم التمثيل فيه من العام 1936- 1958 ومن 1964 – 1990. وقد لعب طلبته الذين تخرجوا من ذلك المعهد دوراً كبيراً في نشر وتطبيق طريقته التي أصبحت تعرف بـ"تقنية ميسنر للممثل" في كل أنحاء الولايات المتحدة.
إن تقنيته في التمثيل بنيت على منهج ستانسلافسكي في بناء الدور والممثل، لكنها تميزت عنها بإعتمادها على التكرار، تكرار التمرين على الدور لغرض تعزيز إمكانية الممثل في أن يحيا بصدق تحت ظروف تخييلية. التكرار الذي يجعل الممثل متمكناً من البحث الأكثر عمقا وكثافة عن الحقيقة الفيزيائية والعاطفية التي ينبثق الحوار عبرها بشكل تلقائي.
يقول عنه أرثر ميللر:"لقد كان ميسنر أكثر الأساتذة مبدئية في فن التمثيل في هذا البلد لعشرات السنين. في كل مرة أشهد فيها پروڤات للممثلين أستطيع أن أعرف بيسر من الذي منهم كان قد تتلمذ على يد ميسنر. إن تقنيته صادقة وبسيطة ولاتعتمد على التعقيدات التي هي ليست ضرورية".
من بين تلامذة ميسنر، روبرت دوڤال، ديڤيد ماميت، جون ڤويت، ديانا كيتون، لي گرانت، گريگوري بيك، گريس كيلي، ماري ستينبورغ، جون ڤونتين، جنيڤر جونز، ستيف ماكوين و سدني پولاك. وسواهم.

(**) توفي ستانلي كوبريك في لندن في عام 1999، أي نفس العام الذي ظهر فيه هذا الفيلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع ذات صلة:

ـ المجلة السينمائية الشهرية sight & sound التي يصدرها معهد الفيلم البريطاني.
أبريل نيسان 2005.
مقابلة أجراها معه المخرج السينمائي الراحل أنتوني ميغيلا رئيس معهد الفيلم البريطاني.

ـ ڤينيسيا مگازين. يونيو حزيران 2006. لقاء أجراه أليكس سيمون.

ـ صحيفة گارديان. 20 مارس 2002 مقال بعنوان(سر نجاحي) لقاء أجراه معه جيوفري مكناب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

علي كامل
كاتب ومخرج سينمائي. لندن
alikamel50@yahoo.co.uk




يتبعه القسم الثاني: (پولاك مخرجاً)

مقالات ـ دراسات ـ نصوص اخرى is powered by Blogspot and Gecko & Fly.
No part of the content or the blog may be reproduced without prior written permission.
First Aid and Health Information at Medical Health