الأربعاء، 11 فبراير 2009 

السينما العراقية.. هل من مجيب؟



عبد العزيز لازم


قد يعتقد القارئ أن هذا نداء استغاثة نطلقه لإنقاذ السينما العراقية أو لتحريك عجلتها، لكننا نوضح إن العبارة تريد دعوة من يمتلك الاهتمام الكافي بالموضوع للتداول والنظر في حال هذا العنوان الذي تعطل تأثيره وأعيقت وظائفه، ذلك إن نشاط المبدع العراقي في مجال السينما قد ظل معاقاً برغم تصاعد قوة حلمه في خلق سينما عراقية تنافس صناعة السينما في المنطقة وفي العالم برغم توفر المقدمات الموضوعية التي تساعد على بلوغ هذا الحلم، أما مسحة الاستغاثة فهي تفرض نفسها كتحصيل حاصل بعد تعاظم الجدل بشأن الموضوع واتساع نطاقه من دون أن يؤدي إلى وضوح في الخطوات العملية. نقول هذا وأمامنا حقائق تسندنا تنتمي إلى واقع الثقافة العراقية عموماً والى البيئة السينمائية التي تكونت في المجتمع العراقي منذ بدايات نشوء هذا الفن في مطلع القرن الماضي وأواخر القرن الذي سبقه..

فعند ظهور الأفلام الأولى لما سمي بالسينما الصامتة كان المشاهد العراقي يشاهد في عام 1909 طلائع تلك الأفلام ويتفاعل معها، ثم عبرّ الفنان العراقي عن طموحه في دخول هذا العالم.من جانب آخر انتشرت دور العرض السينمائي بسرعة ملحوظة في جميع أنحاء العراق، بل إن بعض تلك الدور امتلكت شهرة واسعة في البلدان المجاورة، وقد ساعدت تلك الدور العملاقة التي تفنن أصحابها في اختياراتهم للأفلام على بلورة وعي سينمائي نشيط ليس في أذهان الفنانين العراقيين فحسب، بل وحتى في عقول جمهور عراقي عريض، فأصبحت دور العرض الشتوية والصيفية أماكن مفضلة ليس للمتعة فقط، بل لإثارة النقاشات الصاخبة أحيانا بشأن الأفلام المختلفة، فكنت ترى مجاميع الصبية يروون لبعضهم وقائع القصص التي شاهدوها مجسدة في الأفلام التي شاهدوها، بل إن بعضهم يقف في الشارع غير مكتف بالكلام والصياح والأصوات المساعدة التي يطلقها من بين نواجذه ولسانه التي ترافق الكلمات، كي يتقمص الشخصيات وأدوارها ورسم الحوادث مستخدماً حركات جسمه بكل المرونة التي يتيحها له.ثم تنتقل حمى التقمص والرواية الصاخبة إلى داخل البيوت والعائلات فتضطر الجدات والأمهات إلى السماع ومشاهدة ما يرويه الأولاد العائدون من مغامراتهم العجيبة كل حسب طريقته وكأنهم أبطال الحكايات التي شاهدوها على الشاشة البيضاء.لقد افرز هذا الجمهور الشعبي العريض لاحقاً جمهوراً آخر تمثل بطلبة الكليات والمعاهد والموظفين والمعلمين عموماً وسائر أصحاب القلم والكتاب، تمّيز هؤلاء بالولع الشديد بالمنجزات السينمائية والصورة المتحركة واتجه إلى تناولها بالنقاش المعمق الراقي، بل إن العديد منهم صار يبلور أفكاراً متطورة بخصوص تطور السينما ووظائفها الإنسانية وآفاقها الجمالية .من ناحيتها تجاوبت دور العرض مع ذلك التيار الثقافي السينمائي الجارف فراحت تخضع اختياراتها للأفلام المستوردة لمتطلباته وبما يعزز آفاقه ويعمقه.أما الصحف العراقية فقد فتحت صفحاتها هي الأخرى للمقالات النقدية المتخصصة باستعراض الأفلام وتقييمها ونقدها، وبذا ساهمت في إشاعة الثقافة السينمائية المعمقة في أوساط المجتمع العراقي.لقد كبرت تلك الحمى وتطورت إلى طموح عملي لدى جمهرة واسعة من أولئك الذين كانوا صبيانا وشبانا صغاراً والذين كانوا يتخلون عن بعض الحصص المدرسية من أجل مشاهدة أفلامهم المفضلة ومتابعة آخر أعمال الممثلين المفضلين.استطاع عدد كبير من هؤلاء الحالمين الوصول إلى أروقة الكليات والمعاهد التي تدرس فن السينما في العراق وخارج العراق معززين مواهبهم بالعلم اللازم لوضع قدراتهم في مساحة الأضواء الخلابة.ومن المهم أن نشير إلى أن العديد منهم قد وجدوا في المسرح ملاذاً أمناً يرعى مواهبهم ويحولها إلى تجسيد عملي لخدمة قضايا عميقة في معناها وراقيه في وسائلها، بذلك وكتحصيل حاصل صار المسرح العراقي جامعة نشيطة لاحتواء المواهب الفنية لأجيال متتالية من أصحاب القدرات البارزة في التمثيل والإخراج والتصوير والموسيقى وواضعي السيناريو والمؤلفين ومعدي الأعمال الروائية وغيرهم، وبذلك حافظ البيت المسرحي على هذه المواهب وحماها من الاضمحلال والضياع الذي كان يتهددها في ظروف غير مواتية وغير مشجعة.وبفضل هذا الدور استطاع هذا البيت الصبور أن يتحول إلى مصدر خصب من مصادر السينما العراقية واظب على إمدادها بالمواهب المؤثرة فوجد العديد من المسرحيين العراقيين إن العمل السينمائي هو ساحة طبيعية لإكمال رسالتهم الفنية التي بدؤوها على خشبة المسرح، فأصبح العديد منهم من مؤسسي المبادرات الأولى في مجال العمل السينمائي في البلاد، لكن إصرار هؤلاء وكفاحهم جنبا إلى جنب مع غيرهم ممن انحدر من غير بيئة المسرح، من أجل إرساء قاعدة البناء الفني للسينما، كان محفوفا بصعوبات ومعوقات جمة ناشئة من مصادر شتى اجتماعية واقتصادية وسياسية، فقد تعرض المشروع السينمائي العراقي بسبب ذلك إلى التعطيل واتسمت جهود المتحمسين بالبعثرة وانتظار الصدفة لدرجة جعلت المبدع الراحل يوسف شاهين يتساءل: وهل هناك سينما عراقية؟ جواباً على سؤال عن رأيه في السينما العراقية، لكن ذلك القول في رأينا فيه الكثير من التسرع وعدم الدقة ويبدو إن الرجل قد أطلقه هكذا بسبب انغماسه في تجاربه الواسعة والعميقة في العمل السينمائي وبسبب معايشته لانجازات السينما المصرية البارزة ومساهماته فيها فضلا عن متابعاته الدؤوبة للسينما العالمية المتطورة، فنحن نقول هذا لأننا نعتقد إن الرجل لم يلحظ جذوة الحس والمذاق السينمائي لدى المبدع العراقي والتي حوصرت بإرادات مضادة لا حصر لها، ودليلنا على ذلك إن تلك الجذوة حين وجدت متنفسا لها في عقد الستينيات من القرن الماضي قد أفرزت أعمالا سينمائية قياسية من ناحية الكم إذا ما قورنت بإنتاج دول أخرى ومنها مصر، فإضافة إلى الإنتاج الذي نفذته الدولة بعد تأسيس مصلحة السينما والمسرح عام 1959، تمكن القطاع الخاص في الفترة الممتدة بين عامي (1961-1963) فقط من إنتاج 17 فيلماً روائياً أي بمعدل أكثر من 5 أفلام لكل سنة أحدها بالألوان (فيلم نبوخذ نصر 1962) للمخرج كامل العزاوي الذي كلف إنتاجه أربعين ألف دينار في تلك الفترة، ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى أن المخرج السينمائي حكمت لبيب اوانيس وحده قد اخرج أربعة أفلام ضمن هذه الفترة آخرها (أوراق الخريف) عام 1963 ثم هاجر إلى أمريكا محبطاً! إذاً الإحباط وانعدام الدعم وهبوط الإرادة الرسمية في بلد اعتاد العيش على تدخل الدولة في كل شؤون الحياة هي ابرز عناوين الحال الذي أحاط بالإنتاج السينمائي العراقي ومازال، لكننا لا نستطيع إخراج المنتج والفنان العراقي من ساحة المسؤولية إزاء هذا الوضع كلية، ولنتذكر إن أفلاماً أنتجت في خمسينيات القرن الماضي بإمكانات متواضعة جداً معتمدة على رواتب القائمين عليها أو على ما يملكون من أثاث.. ويفيدنا أن نذكر من التاريخ العالمي للسينما أن هوليوود نفسها كانت أرضاً جرداء قبل أن تقرر إرادة فردية امتلكت الحس الاستثماري المناسب وامتلكت أيضا القدرة على تقدير قيمة الفن في حياة الناس البدء بعمل بناية أشبه بكوخ صار مدينة جبارة للسينما بعد ذلك.ندرك أيضاً أن هناك أسباباً موضوعية أخرى لضمور دور السينما خارجة عن إرادة الفنان العراقي أو المنتج العراقي الرسمي أو غير الرسمي منها هيمنة التلفزيون والفلم التلفزيوني على جمهور المشاهدين في كل مكان، إضافة إلى انتشار الحاسوب والانترنيت.

إن التلفزيون قد استحوذ على محبي السينما أنفسهم الأمر الذي افقدها السوق الذي يحفزها على التطور وإيجاد منافذ متجددة للعمل، لكننا نعرف أيضاً أن هذه المسالة ذات طابع عالمي وقد حصلت كالقانون الأزلي الذي لا راد له، إلا إن السينما كفن مستقل أثبتت قدرتها على التكيف مع حتميات التطور ونتائجه فاستطاعت الدخول في ساحة هذا القادم الجديد، التلفزيون ومنافسته في عقر داره، ولا نستطيع اليوم تصور التلفزيون من دون فن السينما حتى ولو فرض العمل التلفزيوني طبيعة ولون المنتج من الأعمال ٍالسينمائية وتجييره لمصلحة ما اصطلح عليه بالفلم التلفزيوني.انطلاقاً من هذا الواقع نقول إن العمل التلفزيوني يمكن أن يكون عاملاً مساعداً لتطوير العمل السينمائي وليس عائقاً له برغم اختلاف الوسائل الخاصة بكل منهما، لذا فنحن نعتقد أن التلفزيون العراقي والفضائيات الخاصة يمكنهما أن توفر فرصاً إنتاجية جيدة لهواة فن السينما كي يقدموا ما لديهم من مهارات لمصلحة إنعاش العمل السينمائي وتطوره، ونعتقد إن توجهاً عاماً وخطة عمل شاملة تتبناها الجهات المتخصصة في البرلمان أو رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء فضلاً عن دور وزارة الثقافة وبالتنسيق مع المؤسسات المدنية، من شأنها ألاقتراب كثيرا من تحقيق هذا الهدف النبيل.


المدى

 

حرب العراق في السينما


علاء المفرجي

يذهب الكثير من المتخصصين، فضلاً عن إحصاءات شباك التذاكر، الى أن الأفلام التي تناولت حرب أمريكا في العراق حتى الآن، لم تستطع ان تحقق حضورا لافتا وان كان بعضها قد اعتلى منصات الفوز لعدد من المهرجانات السينمائية المهم، كما حصل مع فلم المخرج الكبير بريان دي بالما ( ريداكتد) في مهرجان فينيسيا السينمائي بحصوله على الأسد الفضي فيه.

وللسينما الأمريكية تاريخ حافل بآلام الحرب. فقد أسهمت قلعة الصناعة السينمائية هوليوود في إنتاج الكثير منها خلال وبعد الحرب الكونية الثانية لرفع معنويات جنودها، وأيضاً خلال التورط الأمريكي في فيتنام.

وربما كان التطور الكبير لوسائل الاتصال الذي بلغ ذروته مع دخول أميركا هذه الحرب خاصة مع التغطية التلفزيونية المباشرة لتفاصيلها، الاثر الكبير في إضعاف رغبة الجمهور في البحث عن تفاصيل أخرى لها. وان كانت مسؤولية السينما والفن بشكل عام في طرح الأسئلة الصعبة.لكن يبقى هذا الأمر افتراضاً ليس الا، خاصة مع تعدد واختلاف وجهات النظر حول هذا الموضوع بل ان ما يدحض مثل هذا الرأي يأتي من خلال احد هذه الأفلام وأهمها، ونعني به هنا فيلم دي بالما (ريداكتد) او المنقح الذي يستمد عنوانه من وصف ما يحدث من تنقيح وتعديل ورقابة للتقارير الإخبارية الواردة من مناطق الحرب المشتعلة ، ويركز على موضوعة جريمة اغتصاب فتاة عراقية من قبل الجنود الأمريكان.

نقول ان موضوعة فيلم بالما تدحض وجهة النظر التي تعزو فشل هذه الأفلام الى استيفاء التغطيات الإعلامية لكل تفاصيل الحرب.وهناك وجهة نظر اخرى حظيت بإجماع صناع السينما والدارسين وترى ان هذه الأفلام تهدف الى معارضة حرب ما زالت مستمرة ولا تحظى بالشعبية المطلوبة في اجواء انقسام المجتمع الأمريكي حولها ومبرراتها (وكان ينبغي الانتظار حتى تنتهي)، تماماً مع تجربة السينما في اثناء التورط الأمريكي في فيتنام.فخلال السنوات الأولى لحرب فيتنام لم تنتج هوليوود أفلاماً بالأهمية التي أنتجتها بعد اكثر من عشر سنوات لنهايتها مثل افلام اوليفر ستون ( بلاتون) و(لد في الرابع من تموز) وبعدها بسنوات فيلم مايكل سيمينو (صائد الغزلان) وهال اشبي (عائد الى الوطن) والتي أصبحت شواخص مهمة في تاريخ السينما وليس في تاريخ أفلام الحرب فقط .

واذا كانت أفلام الحرب في فيتنام قد تخللتها أفلام أخذت جانب دعم أمريكا في حربها مثل فيلم (كوماندوس في فيتنام) لمارشال طومبسون الذي صور الوجود الأمريكي في فيتنام كمساعد لشعبها ضد الدكتاتورية الحمراء.. وكذلك فيلم جون وين (القبعات الخضر) الذي ووجه بالاستهجان اينما عرض، فان حرب العراق- وربما كان هذا ما يميزها – قد قوبلت بإدانة جماعية من معظم أفلام هوليوود.ففيلم ريداكتد او المنقح الذي استخدم فيه دي بالما أسلوباً وثائقياً في سرد القصة الحقيقية لاغتصاب الفتاة العراقية عام 2006، يدور أيضاً حول احداث حصلت خلال الحرب لم تنل الاهتمام من التغطيات الإخبارية التي بدورها تتعرض للتنقيح، في حين يذهب بول هاغيس في فيلمه (وادي اله) لاستيعاب عواقب الحرب والتعرض للهوة التي تفصل بين الجنود الأمريكيين في العراق وأسرهم .

والعنوان مستل من الكتاب المقدس فـ (وادي اله) هو مكان الواقعة التي واجه فيها النبي داود جالوت وقتله برمية حجر اما المخرج جيك غالنهال في فيلمه (انتهاك) السجون السرية خارج الولايات المتحدة الأمريكية.

في هذا الفيلم استعان هاغيبس بعدد من الممثلين العراقيين منهم الممثل فلاح ابراهيم الذي لعب دور البطولة.السينما البريطانية ومن خلال فيلم (معركة حديثة) للمخرج نيك برومفيلد تدخل المواجهة من خلال تناول الإحداث الدموية التي وقعت في مدينة حديثة نهاية عام 2005 والتي ذهب ضحيتها 24 مدنياً على يد الجنود الأمريكان .وكما حدث في فيتنام كانت الأفلام الوثائقية هي السباقة الى تناول تفاصيل حرب العراق ويكفي ان نشير الى ان جوائز الأوسكار الأخيرة شهدت تنافس 15 فيلماً وثائقياً عن العراق وأفغانستان فضلا عن الأفلام الروائية الأخرى.

وعلى عكس ما هو شائع من استنفاد التغطيات الإخبارية كل أخبار الحرب، فان لصناع هذه الأفلام رأي اخر يقول أنهم يقومون بما فشلت فيه وسائل الإعلام في نقل الحقيقة حيث دي بالما المشهد يقول (ان السلطة الرابعة خذلتنا بصورة مروعة)


المدى

 

فيلم " فايروس " لجمال أمين




قوة الرمز واستثمار الدلالة التعبيرية في فيلم " فايروس " لجمال أمين



لندن- عدنان حسين أحمد






تكمن أهمية الفيلم الوثائقي " فايروس " للمخرج العراقي جمال أمين في تعاطيه مع موضوعة حيوية وحساسة وساخنة، بل أنها جاءت في أوانها مُستجيبةً لشروط الواقع العراقي الراهن الذي يسوده التخبط والتشوّش والارتباك.ولا شك في أن أي فيلمٍ " تسجيلي " يطمح لأن يكون وثيقة في المستقبل لا بد أن يعوّل على الحياد، ويعتمد على المصداقية، ويتكئ على عفوية الآراء والأطاريح التي تتنباها شخصيات الفيلم التي ترسم بالنتيجة المعالم الحقيقية للمرحلة العصيبة التي يمر بها الوطن والمواطن على حد سواء. والمتابعون من كثب لتجربة المخرج جمال أمين يعرفون جيداً أنه يتوفر على رؤية إخراجية متميزة، كما أنه يمتلك القدرة على كتابة سيناريوهات ناجحة لأفلامه الوثائقية، وربما يكون فيلم " فايروس "، مناط بحثنا ودراستنا، هو خير مثال لما نذهب إليه.



وعلى الرغم من أهمية الكتابة السينمائية والرؤية الاخراجية لجمال أمين إلا أن هدف هذه الدراسة سينصّب على قوة الترميز التي تُعزز من مكانة الفيلم لدى المشاهدين، وتلامس في أعماقهم أوتاراً حساسة ومرهفة. فالفيلم يخاطب الأحاسيس والمشاعر الداخلية للمتلقي العراقي أولاً، كما أن يلامس وجدان المتلقي العربي، ويستطيع الوصول الى المتلقي العالمي المَعني بالقضية العراقية في الأقل.



وظيفية الرمز ودلالته



نجح المخرج جمال أمين منذ بداية الفيلم في إحالة المُشاهد الى عالمٍ رمزيٍ محفوفٍ بالغموض والملابسات الشائكة مُستثمراً الثيمات الحقيقية حيناً، والثيمات المجازية والاستعارية في أحايين أُخَرْ لكي يجسّد الأفكار التي تدور ذهنه على أمل الوصول الى اللحظة التنويرية التي يتأجج فيها ذهن المشاهد وهو يصل الى النهاية المدهشة ويقول في خاتمة المطاف " لقد لامسَ هذا المخرج الذكي العصب الحساس في روحي، وهزَّ وجداني من الأعماق!" لا بد أن يخطر في ذهن المتلقين لهذا الفيلم سؤال ما عن معنى الفايروس الذي اجتاح جسد خريطة العراق من أقصى الغرب الى أقصى الشرق.



( كنت أتمنى على المخرج أن يجعل الفيروسات تتحرك من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال كي تتطابق الحركة مع اندفاع القوات الأنكلو- أمريكية التي إنطلقت من الكويت وبعض بلدان الخليج العربي التي تحتضن القواعد الأمريكية المعروفة، ولا بأس في أن تتحرك بعض الموجات الفيروسية من شرق العراق وغربه في إشارة واضحة موجات الشقاق الطائفي التي بثتها بعض البلدان الاسلامية والعربية المحيطة بالعراق).



وقد ذهب المخرج جمال أمين بالرمز الى أقصى حدوده حينما وقع اختياره على هذا العنوان شديد الدلالة. فكلمة " فايروس " كما هو معروف لاتينية وتعني " السُم " وأكثر من ذلك فهي جُسيمات مُعْدية تُبدي خصائص الحياة كالتكاثر والتضاعف مُستعينة بخلايا الجسد المُضيف التي تتم السيطرة عليها من قبل الفايروس. وما أكثر وجوه الشبه بين أفعال الاحتلال وأفعال الفيروسات التي رأيناها عبر الفيلم تفتك بخلايا العراق وشرايينه الدقيقة. من هنا فإن اختيار العنوان دقيق وموفق ومُوغل في رمزيته.



بنية القصة السينمائية



على الرغم من أن الفيلم وثائقي بالدرجة الأساس، ويحتاج غالباً الى سيناريو يُكتَب بعد التصوير، إلا أن المخرج جمال أمين يميل الى تطعيم بعض أفلامة بمسحة روائية. وحينما نقول مسحة فإننا نعني أن هناك لمساتٍ روائيةً تخرج عن حدود السرد الوثائقي. ففي هذا الفيلم ثمة تصعيد درامي في سياق النقاش الذي يحتد ويصل بالأصدقاء العراقيين الخمسة الى حد القطيعة. فقد ترك ثلاثة أشخاص منهم الميكروباص، واستقلوا سيارة أخرى كي توصلهم الى أقرب محطة قطار ثم يعودوا الى مدينة أودنسة التي انطلقوا منهما مجتعين.



هنا تصل القصة السينمائية الى ذروتها في تصاعد درامي ملحوظ، غير أن الأحداث تأخذ منحىً آخر حينما يستقلوا سيارة " سادات " وهو لا جئ أوغندي لا يجد ضيراً في أن يقلهم الى المحطة القادمة حيث يصادفوا سيارة أصدقائهم عاطلة على قارعة الطريق فيقرروا دفعها جميعاً وكأنهم يدفعون " عراقاً عاطلاً ويائساً من حركته الى أمام! ".



هذا السياق التصاعدي يكشف عن بنية روائية أو قصصية في أضعف الأحوال. أما السمة الروائية الأخرى فإن الفيلم برمته ينتمي الى " أفلام الطريق ". ولو تمعنا في نقطة البداية التي انطلق منها العراقيون الخمسة الذين ينتمون الى قوميات ومذاهب مختلفة فسنجد أنها مدينة اودنسه، وهي ذات المدينة التي يعيش فيها المخرج جمال أمين والشخصيات الخمس التي جسدت أدوارها في فيلم " فايروس " أما نقطة النهاية المُفترضة فهي مدينة أورهوس.



أي أن أحداث هذا الفيلم كانت تتجسد خلال ست وثلاثين دقيقة على هذا الطريق الممتد بين أودنسة وأورهوس . كان الحوار السردي روائياً في الكثير من جوانبه، وبالذات حوارات " فرقد " الذي ينتمي الى أسرة شيعية- سنية في آنٍ معاً. فأبوه رجل شيعي وأمه سنية، هذه الحوارات السريعة والتي تلعب غالباً على أوتار حساسة قد سارعت في الوصول الى الحدث الأهم، كما سارعت في تثويره وحسمة بسرعة غير متوقعة، خصوصاً وان " فرقد " كان يتحدث بلغة ماكرة يمتزج فيها الجد بالسخرية الى الدرجة التي قد تربك المتلقي وتشوشه. ولكي لا نسترسل في التفاصيل الروائية الأخرى لا بد من الاقرار بأن الفيلم كنوع سينمائي ينتمي الى ما يمكن تسميته بـ " Docufiction " وهو أسلوب يمزج بين الفيلم الوثائقي من جهة والروائي من جهة أخرى.



شخصيات الفيلم



إنتقى المخرج جمال أمين خمسة أشخاص وهم جميعاً لم يمارسوا التمثيل من قبل. أربعة منهم عرب وهم فرقد، مصطفى، محمد وجليل، وواحد كردي وهو جيّا. وبين الأشخاص العرب إثنان ينتميان للمذهب الشيعي وهما السائق مصطفى وجليل، والثالث سني وهو محمد، والرابع " شيعي – سني " وعلى الرغم من أن المخرج لم يغَّطِ كل القوميات وكل الأديان الموجودة في العراق مثل التركمان والكلدوآشوريين والإيزيديين والصابئة إلا أن النماذج التي حضرت كانت كافية للتعبير عن طبيعة التجاذب الذي يحدث بين القوميات والاديان والمذاهب العراقية المتنوعة.



ويبدو أن الميكروباص لم يتسع إلا لهذا العدد المحدود مُضافاً إليه المصور الذي كان يجلس في المقعد الأمامي والمصور الثاني الذي كان يجلس الى يمين "فرقد " الشخصية الأساسية التي هيمنت على الجزء الأكبر من الحوار.



من الواضح أن فرقداً كان شخصية قائدة وبيدها زمام الأمور. فهو الذي يتصل هاتفياً بالبقية الباقية من أصدقائه، كما أنه هو الذي يصدر بعض الأوامر مثل الانطلاق من أودنسه، وسرد النكت، وإدارة دفة الحديث وما الى ذلك. وهو للمناسبة شخصية مرحة، مقبولة، وخفيفة الظل، هذا إضافة الى كونه مُحاوِرا جيدا قادرا على أن يمزج الجد بالهزل، ويصل الى غاياته واهدافه بطريق ملتوية، ولا يجد ضيراً في التعرّض للآخرين والتجريح بهم حتى لو لإقتضى الأمر اللجوء الى الوعيد والتهديد.



يبدأ فرقد حديثه بنكتة الحمار والقرد اللذين دبَّ إليهما السأم والضجر وبدءآ يتذمران. وكان الحمار يخشى أن يمسخهما الله. فرد عليه القرد متهكماً " ماذا يمكن أن يمسخنا الله وأنا قرد وأنت حمار! " وكعادة السائق مصطفى المدمن على سماع المأساة الحسينية ليل نهار. ففي صبيحة عطلة هذا الأسبوع كان يستمع الى " المَقتل الحسيني " ولم يقْدم على تغيير الكاسيت إلا بعد إلحاح الجزء الأكبر من الأصدقاء بما فيهم جليل الذي تخلو شخصيته من بعض التعصب الديني. ومن خلال هذه الكوّة يدخل فرقد في حوارات متشعبة متحرشاً بالسائق مصطفى، وجيا الكردي، وجليل الشيعي الذي يتخذ الكثير من المواقف الوسطية للتوفيق بين الأطراف العربية والكردية من جهة، والسنية والشيعية من جهة أخرى. وبما أن " جيا " الكردي يدخن سجائر المارلبورو فإنها سانحة الحظ بالنسبة لفرقد لكي يتهمه بالتأمْرك مثلما إتهم مصطفى الذي يدخن سجائر سومر العراقية بتبعيته لإحدى دول الجوار التي أمعنت في التدخل بالشأن العراقي. ثم يحتدم النقاش مع " جيا " الذي أُستُفِزَّ حينما ذَكَرَ فرقد اسم البارزاني. وفي معرض دفاعه عن القضية الكردية يؤكد " جيا " بأن لغته لا تُشبه اللغة العربية، وعاداته لا تشبه عادات العرب، وأنهم أمة متكاملة، ولهم علم كردي مرفوع الى جانب العلم العراقي غير أن العلم الكردي أعلى من العلم العراقي بقليل! ثم يأخذ النقاش منحىً آخر مع السائق مصطفى الذي لا يرى الحياة إلا من منظار المعاناة، وجَلد الذات، ولاستماع الى القراءات الحسينية. فحينما يحاججه فرقد بأن هناك مناسبة دينية لأحد الأئمة الشيعة قد إنصرمت قبل بضعة أيام يرد عليه مصطفى بأن شهر محرم الحرام على الأبواب في حين أن المدة الزمنية التي تفصلهم عن محرّم هي ثلاثة أشهر. وحينما تزداد مطالبة الآخرين بسماع بعض الأغاني الترفيهية لأنهم في رحلة عطلة الأسبوع وليسوا في مأتم يصر مصطفى وهو سائق الميكروباص، ويحتمل أن تترحل إليه دلالة القيادة بصيغة رمزية، على أن الذي يريد أن يستمع للمقتل الحسيني فعليه أن يبقى في السيارة، ومن لا يريد أن يستمع للمقتل الحسيني فعليه مغادرة السيارة أو بمعنى آخر مغادرة العراق. هكذا بدأت تضيق مساحة الوطن. فـ " جيا " يريد علم كردستان أعلى من علم العراق، ويرى في البارزاني " قِبلة الأكراد " ولا يريد أن يقبل بأي وجه من أوجه التشابه الموجودة بين العرب والكرد. كما أن مصطفى لا يقبل بأي عراقي ما لم يستمع الى مأساة الحسين، ويصبح أسيراً للتاريخ الذي إندثر منذ 1400 سنة تقريباً. أما جليل فكان شخصية وسطية تبرر لمصطفى وجيا ومحمد وحتى الى فرقد في بعض الأحيان. أما محمد فقد كان الأقل حظاً في التعبير عن وجهات نظره. إن أثرى الشخصيات وأعمقها هي من دون شك شخصية فرقد كونه ينتمي الى المذهبين السني والشيعي في آن معاً. كما أنه ضحية للنظام السابق، وقد فقد " 18 " شخصاً من أسرته وأسر أقربائه. وهو يحب العراق من دون شك، ولكنه يريد للجميع أن ينضووا تحت رايته حتى لو تطلب الأمر ظهور شخصيات قمعية لا تتعامل مع العراقيين إلا بلغة الحديد والنار والغازات السامة.



إستعان المخرج جمال أمين في لحظة التوتر التي أفضت الى إنفصال الأصدقاء العراقيين الى مجموعتين بقصيدة " غريب على الخليج " لبدر شاكر السيّاب، وهو شاعر عراقي مُحَبَب الى شرائح واسعة من الشعب العراقي، كما إستجار بصوت الفنان العراقي فؤاد سالم الذي كان صوته يتماهى مع إسم العراق لانقاذ ما يمكن إنقاذه من تمزق وتشرذم شطَر هذه المجموعة العراقية الى شطرين متباعدين، ويبدو أن الأغنية لم تكن " تتفجر في قرارة نفس الشاعر الثكلى " حسب، وإنما كانت تتفجر في أعماق الشخصيات الخمس التي ترمز الى العراق كله وتُحيل إليه بمختلف مكوناته الاجتماعية.



لنستمع الى هذا المقطع الشعري المعبِّر للسياب وهو يُغنّى بصوت فؤاد سالم الممتلئ حنيناً وعذوبة: " صوتٌ تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق / كالمد يصعدُ كالسحابة، كالدموع الى العيون/ الموج يصرخ بي عراق / والريحُ تعْوِل بي عراق، عراق، ليس سوى عراق"



الخاتمة التعبيرية



حينما ينقسم الأصدقاء العراقيون الخمسة الى قسمين، ثلاثة يترجلون من الميكروباص " رمز الوطن مجازاً " بينما يبقى المتشددون فيه، ويقودونه الى الهدف المرسوم له سلفاً يتعطل في منتصف الطريق، بينما الحياة تسير وكأن شيئاً لم يكن. وحينما يصل الأصدقاء الثلاثة الذين ترجلوا سابقاً يشاهدون " الميكروباص أو العراق " عاطلاً على قارعة الطريق. وبلقطة بليغة جداً قد تمثل عصارة الفيلم يطلب مصطفى، السائق المتشدد الذي قمعهم غير مرة، أن يدفعوا " الميكروباص أو العراق " دفعة صغيرة علّه يتحرك، ويندفع الى أمام!.

الصباح الجديد

 

من يعيد الحياة الى السينما العراقية




وجهة نظر - من يعيد الحياة الى السينما في العراق؟

ماجد السامرائي


قبل الإجابة عن السؤال: ماذا يعني، في حركة الحياة في مجتمع ما، أن تغلق دور العرض السينمائي أبوابها، ويتحول بعضها، حتى في المدن المركزية، الى محال تجارية، ومستودعات لبضائع مستوردة؟... نثير السؤال لما يعنيه غياب السينما، صالة عرض وفيلماً ومشاهد، من الأفق الثقافي للإنسان في مجتمع كالمجتمع العراقي، وفي مدينة مثل بغداد تحولت، بفعل سنوات الاحتلال، من عاصمة ثقافية الى مدينة متأخرة، حياة وثقافة، حيث تتراجع المجلة، وينحسر الكتاب، ويغيب المقهى كفضاء لقاء، ويتأخر المسرح... وفوق هذا كله تغلق دور العرض السينمائي أبوابها، لنجد أنفسنا أمام جيل كامل من الشباب (بين سن الـ20 و30 سنة) لا يعرف شيئاً عن ذلك، ولا تصورّ لديه عن صالة العرض، ولا عن الكيفية التي كانت تقدم بها عروضها، فضلاً عن عدم معرفته أي شيء عما يدعى من جمهور السينما.
إنّ إثارة مثل هذه التساؤلات أمام واقع يشهد هذا كله، ويعيشه، إنما يطرح، وبامتياز، أزمة الواقع الثقافي، التي نشير إليها هنا من خلال السينما وأزمة حضورها في مثل هذا الواقع، وتأثير هذه الأزمة في مستقبل الثقافة في البلد.
فقبل ست سنوات غابت السينما من أفق هذا الواقع، وانتهى دور صالات العرض بصفتها مجالاً ثقافياً. وقبل ذلك بنحو عشر سنوات كان أن غاب عن صالات العرض هذه الفيلم الذي ينتمي الى ما نسميه بالسينما الرفيعة، بحكم «سنوات الحصار». ويمكن أن نقدر سلبية هذا الغياب - التغييب وتأثيره الكبير والخطير إذا ما نظرنا الى ما أحدث من فراغ ثقافي سينعكس، بدوره، على مجالات الحياة الثقافية الأخرى، وخصوصاً إذا ما ألقينا نظرة استعادية الى سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي، ومعرفة مدى الدور الذي كانت تلعبه السينما، صالات عرض وأفلاماً، في بناء ثقافة تلك المرحلة، يوم كانت السينما بما تقدم من عروض مهمة، ومتجددة على الدوام، مصدراً من مصادر الثقافة وفي صورة المثقفين الذين كانت دور العرض الرئيسة، في بغداد تحديداً، تحسب حسابهم في ما تقدم لجمهورها من أفلام - أحدث الأفلام وأكثرها أهمية وإثارة لاهتمام المشاهد، الأمر الذي جعل لصالات العرض تلك «تقاليدها»: فهي دائماً مع الأفلام الجديدة التي تنتجها مختلف عواصم الإنتاج السينمائي في العالم، مع الأخذ في الاعتبار أهميتها الفنية ونجومية ممثليها وشهرة مخرجيها. وحين كانت صالات العرض هذه تعرض أفلاماً كبرى سبقت شهرتها شهرة الأعمال الروائية التي أخذت عنها (مثل: الحرب والسلام، والشيخ والبحر، وزوربا، والفراشة... وما الى ذلك، مما يعده المثقفون من أفلامهم المميزة)، كانت تلك الأفلام تتحول الى موضوعات ثقافية للمثقفين: من الكتابة عنها في الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية التي كان معظمها يفرد صفحات أسبوعية للسينما، الى مقاهي المثقفين ومنتدياتهم. وتأخذ تلك الأحاديث والكتابات أكثر من مسار: فمنها ما يتحدث عن التقنيات السينمائية في هذا الفيلم أو ذاك حديث عارف بالفن السينمائي، ومنها ما يأخذ سبيل المقارنة بين العمل في بعديه: البعد الأدبي الذي يكتمل به كتاباً، وفي البعد السينمائي الذي يجري به فناً.. ومن تلك المتابعات، والأحاديث أيضاً، ما كان يعنى بالمضامين فيناقش القضايا التي تثيرها، وعلاقة ذلك بمشكلات العصر وقضايا الإنسان فيه... ما أوجد، في المحصلة، ثقافة سينمائية راح يستفيد منها، بقدر أو بآخر، المشاهد العادي... هذا فضلاً عما خلقته تلك الحال، في مجمل عناصرها من «جمهور سينمائي» كان يمكن الكلام عليه من حيث «عادات المشاهدة» و «تقاليدها».
هذا كله كان في سنوات الستينات والسبعينات، وقد امتد الى الثمانينات. وكان هذا «الجمهور السينمائي» يزداد عدداً ويتكاثر، الأمر الذي دفع بعض المستثمرين الى إنشاء دور عرض جديدة، كما أصبح في بغداد وحدها أكثر من نادٍ للسينما: يقدم العروض المختارة، ويعقد الندوات النقدية والحلقات النقاشية حولها، ما شكل تقليداً ثقافياً جديداً أضافته هذه الحياة الى تقاليدها. إلاّ أن هذا الواقع، بكل ما له وما كان لنا منه، راح ينحدر ويتراجع مع بداية التسعينات، وما شهدته سنواته من حصار مرير شمل الخبز والكتاب والمجلة والفيلم... حتى كان الغزو الأميركي للعراق واحتلاله العام 2003، ليطلق «رصاصة الرحمة» على كل ما تبقى، بما في ذلك السينما: إنتاجاً، ودور عرض، وعروضاً عامة. واليوم... يعيش جيل من الشباب العراقي، ومنه طلبة أقسام السينما في كليات الفنون ومعاهدها، لا يعرف لدور العرض السينمائي في العراق باباً، ولم يطلع على شيء مما ينتجه العالم في هذا المجال الذي شهد، في خلال العقدين الأخيرين، تطورات كبيرة ومهمة.
وسيقول لك هذا الجيل، وأنت تحاول التعرف الى ثقافته أو تناقشه في مفرداتها: إن السينما، والى حد كبير المسرح، هي «مفردات ثقافية» ليست كما ينبغي لها أن تكون في ثقافة هذا الجيل، إن لم تكن مسقطة من مكونات ثقافة معظم أبنائه. فهو لا يعرف عنها ما يكفي، وإن عرف فمن خلال ما يقرأ هنا أو هناك، أو من خلال ما يقدمه التلفزيون.

الحياة

 

كل شيء سينما .. الحياة العملية لـ جان لوك غودار




ترجمة :نجاح الجبيلي


إن كتاب ريتشارد برودي « كل شيء سينما، الحياة العملية لجان جاك غودار» هو قصة تحول ووصف مثابر لرحلة فنية مستمرة مدى الحياة. والآن عرفنا كيف أن واحداً من أعظم صناع الأفلام – الرجل الذي غيّر السينما بصورة جذرية في عام 1959 مع ظهور أول فيلم له بعنوان « على آخر نفس»- أصبح ثرثاراً لا يطاق. وربما لن يكون ذلك هو هدف برودي في كتابة هذه السيرة النقدية المضنية و المنهكة أحياناً. وكما أوضح برودي الناقد السينمائي والمحرر في مجلة «نيويوركر» في المقدمة، بأنه مازال يؤمن بعلاقة غودار بالقضايا الحالية زاعماً بأن صانع الفيلم غير العازم على التقاعد الذي عاش في «رول» / سويسرا لمدة ثلاثين سنة، يستمر بالعمل « بأعلى مستوى من الإنجاز الفني».

هذه عاطفة تحمل الحب والتفاؤل لكن لا تستحقها الكثير من أفلام غودار ما بعد عام 1967: ملاكمات وهمية فارغة مثل فيلم « الاسم الأول كارمن»- 1983 أو «موسيقانا»- 2004 تبدو مصممة لتغريب المشاهدين بدلاً من جذبهم بصورة أقرب، وهو الذي يحدث حين يبدأ أي فنان في العيش تماماً داخل رأسه. إنهم الفنانون الذين نحبهم بشكل أفضل والذين هم قادرون جداً على تخييب أملنا، وأي شخص يجد المتعة في صراحة أفلام غودار المصنوعة ما بين سنتي 1959- 1967- أنتج خمسة عشر فيلماً طويلاً مدهشاً في تلك الفترة، بدءاً من « على آخر نفس» و» الاحتقار» و « بيير المجنون» و «نهاية الأسبوع»- عليه أن يعرف بأن الألم هو جزء من الحب. فإن لم نفعل فكيف نعنى بمشاهدة أفلامه في المقام الأول؟

في هذا الكتاب الجاد والمفصل بعناية يغفر «برودي» بعض أعمال غودار المتأخرة الأقل أهمية، لكن إصراره في تقييمها بإحكام يبدو نابعاً من رغبته المخلصة في فهم هذا الرجل المعقد والكريه بكل معنى الكلمة. في فحصه لاستعمال اللغة في فيلم غودار « ألفا فيل»- 1965 يكتب «برودي» بأن « الشعر والحب غير منطقيين. وثبة المذهب المسمى الحب تنطلق في وجه كل ما هو منطقي». ويؤلف كتاب « كل شيء سينما» شيئا من القفزة نفسها: أن تحب صانع فيلم عنيد ولعين مثل «غودار» هو بالتأكيد الجنون بعينه. لكن الفشل في الحصول على المتعة العاطفية أو الحسية وحتى ولو في واحد من أفلامه هو إغفال للشعر.

يشق كتاب «كل شيء سينما» طريقه بصورة منهجية عبر سيرة غودار، بدءاً بأيامه حين كان شاباً متعلقاً بالسينما في بواكير الخمسينيات ويكتب للمجلات السينمائية مثل « لا غازيت دو سينما» وفيما بعد المجلة المؤسسة حديثاً كاييه دو سينما « دفاتر السينما». يوضح برودي بأن دخول غودار إلى صناعة الفيلم الفرنسي ، عن طريق النقد الكتابي، كان «ثوريا وتعليمياً» : كان غودار ومعاصروه – من بينهم صناع الأفلام القادمون للموجة الجديدة بضمنهم فرانسوا تريفو وجاك ريفيت وموريس شيرر ( معروف بصورة أفضل لمشاهدي السينما بإسم أريك رومر)- يثقفون أنفسهم بالذهاب إلى عروض صالات « السينما» و «النادي السينمائي» في الحي اللاتيني، حيث يمكن أن يشاهدوا ثلاثة أو أربعة أفلام خلال اليوم. كان لدى غودار، الذي ينحدر من عائلة غنية ، مال أكثر من معاصريه ووجد طرقاً مبدعة، وإن تكن غير أخلاقية ، للحصول على المزيد: في عام 1950 دعم ميزانية «ريفيت» في صنع فيلم حجم 16 ملم ، عن طريقً سرقة طبعات نادرة من مكتبة جدّه وبيعها.

في كتاب « كل شيء سينما» لا يخجل برودي من عرض عيوب «غودار» على الرغم من أن مقتربه مع ذلك يوحي بعاطفة عميقة لموضوعه. يكتب عن علاقة غودار المضطربة مع زوجته الأولى، الممثلة «آنا كارينا» التي ستكون من الوجوه التي لا تنسى في سبعة من أفلامه.هناك مسحة حزينة حين يصف برودي كيف أن غودار احتقرها، في الشاشة وخارجها، وهي طريقة للاعتراف بأن المرأة يجب أن لا تعاني كثيراً من بعض فن الرجل، حتى لو كان هذا الرجل غودار.لكن برودي يتعامل بصورة عادلة مع غودار في أشد فترات صنعته نضجاً وهي فترة العظمة والإبداع التي تنافس عليها القلة من صناع الفيلم الآخرين. وهذه الفترة الممتدة 8 سنوات التي تنتهي بـفيلم «الصينية» وهو قصيدة غودار عن المثالية المتطرفة بين الشباب وفيلم «نهاية الأسبوع» ، وهو الفيلم الذي، كما يقول لنا، إن غودار نفسه يدعوه الأقرب إلى أن يكون صرخة وليس فيلماً». ( وبطاقات الحوار تقرأ « نهاية القصة» و «نهاية السينما»). وكلا الفيلمين ظهرا في فرنسا قبل سنة 1968 المهمة جداً وقد عجلا بحدوث « انهيار غودار السياسي والجمالي».

والنصف الثاني من كتاب « كل شيء سينما» يغطّي أفلام غودار المصنوعة بعد سنة 1967 وهو قسم طويل جداً. يحاول برودي أن ينشّطنا لأجل هذا الامتداد المؤثر المطوّل وهو يعترف بأن غودار ما بعد سنة 1967 عدّ نفسه آنذاك ماوياً ، فوقع في شرك « سترة المجانين الإيديولوجية»( سترة من الخيش تعطى إلى المجانين أو المجرمين الخطرين لكي لا يؤذون أنفسهم-م) لكنه يضيف بأن أفكاره التي تقف وراء تلك الأيديولوجية « أتاحت الأساس لشكل جديد تعاوني من صناعة الفيلم» سوف تشي ببقية صنعة غودار.

محاولة جيدة. ليت الأفلام كانت أفضل. إن برودي نفسه يكره بعضاً منها (فيلم «موسيقانا») ويعجب جداً بالبعض الآخر (فيلم «موجة جديدة») لكن هذا الحماس لغودار المتأخر يبدو أكاديميا ومزاجيا أكثر مما هو عاطفي، وتفسيراته السريرية المطولة لهذه الأفلام ( والأعمال التلفزيونية التي أخرجها غودار في تلك الفترة) تثقل الكتاب. وحين يتكلم برودي عن «ذلك الشكل التعاوني لصناعة الأفلام» الذي تبناه غودار، فإنه يشير بالخصوص إلى تعاون غودار في البداية مع صديقه الصحفي والرفيق الماوي « جان بيير غورين» ثم مع شريكته الكاتبة والمخرجة «آن ماري ميفي». ومع ذلك، فإن صيغة صناعة الفيلم التي يصفها برودي في النصف الأخير من كتاب « كل شيء سينما» تبدو دكتاتورية أكثر منها تعاونية. إن سرد برودي متبّل باقتباسات من الممثلين والمصورين السينمائيين وآخرين ( من بينهم نورمان ميلر الذي عمل لفترة قصيرة مع غودار في فيلم «الملك لير» 1987) يشهد على فظاظة المخرج ورفضه المتعمد لتوضيح ما كان يرغب منهم. ( هناك مخرجون آخرون مثل زميل غودار في الموجة الجديدة «ريفيت» كانت وسائله في صناعة الفيلم أمثلة أفضل على النموذج التعاوني للستينيات وبداية السبعينيات. فلكي يصنع ملحمته التي طولها 12 ساعة «خارج 1» أعطى ريفيت لطاقمه الكبير من الممثلين خطوطاً إرشادية لخلق شخصياتهم، فكتبوا أغلب حوار فيلمهم بأنفسهم.

وبرودي بالكاد يستر هنات موضوعه: فهو يدعو غودار الأردأ في أفكاره السياسية ، وبالأخص تكريس نفسه للماوية ( اتجاه بين المفكرين الفرنسيين في أواخر الستينات الذي يصفه برودي بصورة صحيحة، كونه فاشية مقنعة بقناع خفيف) ثم معاداة السامية التي تبرز إلى السطح بصورة متكررة في أعماله. و من الجدير بالذكر بأن غودار الماوي الملتزم والناطق بالبلاغة الموجهة ضد الرأسمالية والأميركانية، صنع فيلمين تجاريين لـشركة «كانيك» في بواكير التسعينيات. ولم يتم عرضهما على الرغم من أن غودار يفترض أنه قبض الشيكات.

خلال سيرته غالباً ما كانت أيديولوجية غودار السياسية معلقة قليلاً بأكثر من شعارات وأصوات قصيرة مثيرة للانتباه. في عام 1969 قال لصحفي من لندن بأن دور الأوبرا يجب أن تحرق كونها وسائل إعادة صنع الثقافة. ثم عدّل الفكرة:» كلا، لا تحرقوها، فقط انسوها قليلاً.وكما قال ماو : لو أننا أحرقنا الكتب لن نعرف كيف ننقدها». وعلى الرغم من أن برودي يكرّر اختبار أيديولوجية غودار المحدودة إلا صإنه لا يقبل إلا قليلاً وبسرعة بفكرة أن العمل الفني الذي يشي بالأفكار السياسية هو أصلاً أكثر أهمية ومغزى من العمل الذي يحوي على مقدار كبير من الإبداع الجمالي أو العمق العاطفي. إن أفكار غودار السياسية لم تكن أبداً من العناصر الأقوى في أفلامه. ولسوء الحظ فإنه بعد عام 1968 أصبحت غالباً البؤرة لها. ويكون برودي في أفضل حالاته حين يصف كيف أن تقنية غودار المدهشة جداً، وبالأخص في سنواته المبكرة تكثف من شحنة القصص التي يحكيها، وتطلعنا على طرق جديدة في النظر أو المشاهدة.

يكتب برودي :» حتى الآن يبدو فيلم «على آخر نفس» مزيجاً قوياً من الجاز والفلسفة. وبعد هذا الفيلم بدت بسرعة أغلب الأفلام الجديدة الأخرى قديمة الطراز «. وله الحق في ذلك. إن فيلم «على آخر نفس» هو من أكثر أفلام غودار شمولاً. ونقطة وصول لعدد من أتباعه اللاحقين. ونضجه لا غبار عليه: ومشاهدة أفلامه، حتى اليوم، يبعث على الشعور بالحضور في ولادة شيء جديد.بداية القصة. بداية السينما.إذا لم يعطنا غودار شيئاً أكثر فسيكون ذلك كافياً


المدى

مقالات ـ دراسات ـ نصوص اخرى is powered by Blogspot and Gecko & Fly.
No part of the content or the blog may be reproduced without prior written permission.
First Aid and Health Information at Medical Health