الأربعاء، 11 فبراير 2009 

السينما العراقية.. هل من مجيب؟



عبد العزيز لازم


قد يعتقد القارئ أن هذا نداء استغاثة نطلقه لإنقاذ السينما العراقية أو لتحريك عجلتها، لكننا نوضح إن العبارة تريد دعوة من يمتلك الاهتمام الكافي بالموضوع للتداول والنظر في حال هذا العنوان الذي تعطل تأثيره وأعيقت وظائفه، ذلك إن نشاط المبدع العراقي في مجال السينما قد ظل معاقاً برغم تصاعد قوة حلمه في خلق سينما عراقية تنافس صناعة السينما في المنطقة وفي العالم برغم توفر المقدمات الموضوعية التي تساعد على بلوغ هذا الحلم، أما مسحة الاستغاثة فهي تفرض نفسها كتحصيل حاصل بعد تعاظم الجدل بشأن الموضوع واتساع نطاقه من دون أن يؤدي إلى وضوح في الخطوات العملية. نقول هذا وأمامنا حقائق تسندنا تنتمي إلى واقع الثقافة العراقية عموماً والى البيئة السينمائية التي تكونت في المجتمع العراقي منذ بدايات نشوء هذا الفن في مطلع القرن الماضي وأواخر القرن الذي سبقه..

فعند ظهور الأفلام الأولى لما سمي بالسينما الصامتة كان المشاهد العراقي يشاهد في عام 1909 طلائع تلك الأفلام ويتفاعل معها، ثم عبرّ الفنان العراقي عن طموحه في دخول هذا العالم.من جانب آخر انتشرت دور العرض السينمائي بسرعة ملحوظة في جميع أنحاء العراق، بل إن بعض تلك الدور امتلكت شهرة واسعة في البلدان المجاورة، وقد ساعدت تلك الدور العملاقة التي تفنن أصحابها في اختياراتهم للأفلام على بلورة وعي سينمائي نشيط ليس في أذهان الفنانين العراقيين فحسب، بل وحتى في عقول جمهور عراقي عريض، فأصبحت دور العرض الشتوية والصيفية أماكن مفضلة ليس للمتعة فقط، بل لإثارة النقاشات الصاخبة أحيانا بشأن الأفلام المختلفة، فكنت ترى مجاميع الصبية يروون لبعضهم وقائع القصص التي شاهدوها مجسدة في الأفلام التي شاهدوها، بل إن بعضهم يقف في الشارع غير مكتف بالكلام والصياح والأصوات المساعدة التي يطلقها من بين نواجذه ولسانه التي ترافق الكلمات، كي يتقمص الشخصيات وأدوارها ورسم الحوادث مستخدماً حركات جسمه بكل المرونة التي يتيحها له.ثم تنتقل حمى التقمص والرواية الصاخبة إلى داخل البيوت والعائلات فتضطر الجدات والأمهات إلى السماع ومشاهدة ما يرويه الأولاد العائدون من مغامراتهم العجيبة كل حسب طريقته وكأنهم أبطال الحكايات التي شاهدوها على الشاشة البيضاء.لقد افرز هذا الجمهور الشعبي العريض لاحقاً جمهوراً آخر تمثل بطلبة الكليات والمعاهد والموظفين والمعلمين عموماً وسائر أصحاب القلم والكتاب، تمّيز هؤلاء بالولع الشديد بالمنجزات السينمائية والصورة المتحركة واتجه إلى تناولها بالنقاش المعمق الراقي، بل إن العديد منهم صار يبلور أفكاراً متطورة بخصوص تطور السينما ووظائفها الإنسانية وآفاقها الجمالية .من ناحيتها تجاوبت دور العرض مع ذلك التيار الثقافي السينمائي الجارف فراحت تخضع اختياراتها للأفلام المستوردة لمتطلباته وبما يعزز آفاقه ويعمقه.أما الصحف العراقية فقد فتحت صفحاتها هي الأخرى للمقالات النقدية المتخصصة باستعراض الأفلام وتقييمها ونقدها، وبذا ساهمت في إشاعة الثقافة السينمائية المعمقة في أوساط المجتمع العراقي.لقد كبرت تلك الحمى وتطورت إلى طموح عملي لدى جمهرة واسعة من أولئك الذين كانوا صبيانا وشبانا صغاراً والذين كانوا يتخلون عن بعض الحصص المدرسية من أجل مشاهدة أفلامهم المفضلة ومتابعة آخر أعمال الممثلين المفضلين.استطاع عدد كبير من هؤلاء الحالمين الوصول إلى أروقة الكليات والمعاهد التي تدرس فن السينما في العراق وخارج العراق معززين مواهبهم بالعلم اللازم لوضع قدراتهم في مساحة الأضواء الخلابة.ومن المهم أن نشير إلى أن العديد منهم قد وجدوا في المسرح ملاذاً أمناً يرعى مواهبهم ويحولها إلى تجسيد عملي لخدمة قضايا عميقة في معناها وراقيه في وسائلها، بذلك وكتحصيل حاصل صار المسرح العراقي جامعة نشيطة لاحتواء المواهب الفنية لأجيال متتالية من أصحاب القدرات البارزة في التمثيل والإخراج والتصوير والموسيقى وواضعي السيناريو والمؤلفين ومعدي الأعمال الروائية وغيرهم، وبذلك حافظ البيت المسرحي على هذه المواهب وحماها من الاضمحلال والضياع الذي كان يتهددها في ظروف غير مواتية وغير مشجعة.وبفضل هذا الدور استطاع هذا البيت الصبور أن يتحول إلى مصدر خصب من مصادر السينما العراقية واظب على إمدادها بالمواهب المؤثرة فوجد العديد من المسرحيين العراقيين إن العمل السينمائي هو ساحة طبيعية لإكمال رسالتهم الفنية التي بدؤوها على خشبة المسرح، فأصبح العديد منهم من مؤسسي المبادرات الأولى في مجال العمل السينمائي في البلاد، لكن إصرار هؤلاء وكفاحهم جنبا إلى جنب مع غيرهم ممن انحدر من غير بيئة المسرح، من أجل إرساء قاعدة البناء الفني للسينما، كان محفوفا بصعوبات ومعوقات جمة ناشئة من مصادر شتى اجتماعية واقتصادية وسياسية، فقد تعرض المشروع السينمائي العراقي بسبب ذلك إلى التعطيل واتسمت جهود المتحمسين بالبعثرة وانتظار الصدفة لدرجة جعلت المبدع الراحل يوسف شاهين يتساءل: وهل هناك سينما عراقية؟ جواباً على سؤال عن رأيه في السينما العراقية، لكن ذلك القول في رأينا فيه الكثير من التسرع وعدم الدقة ويبدو إن الرجل قد أطلقه هكذا بسبب انغماسه في تجاربه الواسعة والعميقة في العمل السينمائي وبسبب معايشته لانجازات السينما المصرية البارزة ومساهماته فيها فضلا عن متابعاته الدؤوبة للسينما العالمية المتطورة، فنحن نقول هذا لأننا نعتقد إن الرجل لم يلحظ جذوة الحس والمذاق السينمائي لدى المبدع العراقي والتي حوصرت بإرادات مضادة لا حصر لها، ودليلنا على ذلك إن تلك الجذوة حين وجدت متنفسا لها في عقد الستينيات من القرن الماضي قد أفرزت أعمالا سينمائية قياسية من ناحية الكم إذا ما قورنت بإنتاج دول أخرى ومنها مصر، فإضافة إلى الإنتاج الذي نفذته الدولة بعد تأسيس مصلحة السينما والمسرح عام 1959، تمكن القطاع الخاص في الفترة الممتدة بين عامي (1961-1963) فقط من إنتاج 17 فيلماً روائياً أي بمعدل أكثر من 5 أفلام لكل سنة أحدها بالألوان (فيلم نبوخذ نصر 1962) للمخرج كامل العزاوي الذي كلف إنتاجه أربعين ألف دينار في تلك الفترة، ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى أن المخرج السينمائي حكمت لبيب اوانيس وحده قد اخرج أربعة أفلام ضمن هذه الفترة آخرها (أوراق الخريف) عام 1963 ثم هاجر إلى أمريكا محبطاً! إذاً الإحباط وانعدام الدعم وهبوط الإرادة الرسمية في بلد اعتاد العيش على تدخل الدولة في كل شؤون الحياة هي ابرز عناوين الحال الذي أحاط بالإنتاج السينمائي العراقي ومازال، لكننا لا نستطيع إخراج المنتج والفنان العراقي من ساحة المسؤولية إزاء هذا الوضع كلية، ولنتذكر إن أفلاماً أنتجت في خمسينيات القرن الماضي بإمكانات متواضعة جداً معتمدة على رواتب القائمين عليها أو على ما يملكون من أثاث.. ويفيدنا أن نذكر من التاريخ العالمي للسينما أن هوليوود نفسها كانت أرضاً جرداء قبل أن تقرر إرادة فردية امتلكت الحس الاستثماري المناسب وامتلكت أيضا القدرة على تقدير قيمة الفن في حياة الناس البدء بعمل بناية أشبه بكوخ صار مدينة جبارة للسينما بعد ذلك.ندرك أيضاً أن هناك أسباباً موضوعية أخرى لضمور دور السينما خارجة عن إرادة الفنان العراقي أو المنتج العراقي الرسمي أو غير الرسمي منها هيمنة التلفزيون والفلم التلفزيوني على جمهور المشاهدين في كل مكان، إضافة إلى انتشار الحاسوب والانترنيت.

إن التلفزيون قد استحوذ على محبي السينما أنفسهم الأمر الذي افقدها السوق الذي يحفزها على التطور وإيجاد منافذ متجددة للعمل، لكننا نعرف أيضاً أن هذه المسالة ذات طابع عالمي وقد حصلت كالقانون الأزلي الذي لا راد له، إلا إن السينما كفن مستقل أثبتت قدرتها على التكيف مع حتميات التطور ونتائجه فاستطاعت الدخول في ساحة هذا القادم الجديد، التلفزيون ومنافسته في عقر داره، ولا نستطيع اليوم تصور التلفزيون من دون فن السينما حتى ولو فرض العمل التلفزيوني طبيعة ولون المنتج من الأعمال ٍالسينمائية وتجييره لمصلحة ما اصطلح عليه بالفلم التلفزيوني.انطلاقاً من هذا الواقع نقول إن العمل التلفزيوني يمكن أن يكون عاملاً مساعداً لتطوير العمل السينمائي وليس عائقاً له برغم اختلاف الوسائل الخاصة بكل منهما، لذا فنحن نعتقد أن التلفزيون العراقي والفضائيات الخاصة يمكنهما أن توفر فرصاً إنتاجية جيدة لهواة فن السينما كي يقدموا ما لديهم من مهارات لمصلحة إنعاش العمل السينمائي وتطوره، ونعتقد إن توجهاً عاماً وخطة عمل شاملة تتبناها الجهات المتخصصة في البرلمان أو رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء فضلاً عن دور وزارة الثقافة وبالتنسيق مع المؤسسات المدنية، من شأنها ألاقتراب كثيرا من تحقيق هذا الهدف النبيل.


المدى

مقالات ـ دراسات ـ نصوص اخرى is powered by Blogspot and Gecko & Fly.
No part of the content or the blog may be reproduced without prior written permission.
First Aid and Health Information at Medical Health