فيلم " فايروس " لجمال أمين
قوة الرمز واستثمار الدلالة التعبيرية في فيلم " فايروس " لجمال أمين
لندن- عدنان حسين أحمد
تكمن أهمية الفيلم الوثائقي " فايروس " للمخرج العراقي جمال أمين في تعاطيه مع موضوعة حيوية وحساسة وساخنة، بل أنها جاءت في أوانها مُستجيبةً لشروط الواقع العراقي الراهن الذي يسوده التخبط والتشوّش والارتباك.ولا شك في أن أي فيلمٍ " تسجيلي " يطمح لأن يكون وثيقة في المستقبل لا بد أن يعوّل على الحياد، ويعتمد على المصداقية، ويتكئ على عفوية الآراء والأطاريح التي تتنباها شخصيات الفيلم التي ترسم بالنتيجة المعالم الحقيقية للمرحلة العصيبة التي يمر بها الوطن والمواطن على حد سواء. والمتابعون من كثب لتجربة المخرج جمال أمين يعرفون جيداً أنه يتوفر على رؤية إخراجية متميزة، كما أنه يمتلك القدرة على كتابة سيناريوهات ناجحة لأفلامه الوثائقية، وربما يكون فيلم " فايروس "، مناط بحثنا ودراستنا، هو خير مثال لما نذهب إليه.
وعلى الرغم من أهمية الكتابة السينمائية والرؤية الاخراجية لجمال أمين إلا أن هدف هذه الدراسة سينصّب على قوة الترميز التي تُعزز من مكانة الفيلم لدى المشاهدين، وتلامس في أعماقهم أوتاراً حساسة ومرهفة. فالفيلم يخاطب الأحاسيس والمشاعر الداخلية للمتلقي العراقي أولاً، كما أن يلامس وجدان المتلقي العربي، ويستطيع الوصول الى المتلقي العالمي المَعني بالقضية العراقية في الأقل.
وظيفية الرمز ودلالته
نجح المخرج جمال أمين منذ بداية الفيلم في إحالة المُشاهد الى عالمٍ رمزيٍ محفوفٍ بالغموض والملابسات الشائكة مُستثمراً الثيمات الحقيقية حيناً، والثيمات المجازية والاستعارية في أحايين أُخَرْ لكي يجسّد الأفكار التي تدور ذهنه على أمل الوصول الى اللحظة التنويرية التي يتأجج فيها ذهن المشاهد وهو يصل الى النهاية المدهشة ويقول في خاتمة المطاف " لقد لامسَ هذا المخرج الذكي العصب الحساس في روحي، وهزَّ وجداني من الأعماق!" لا بد أن يخطر في ذهن المتلقين لهذا الفيلم سؤال ما عن معنى الفايروس الذي اجتاح جسد خريطة العراق من أقصى الغرب الى أقصى الشرق.
( كنت أتمنى على المخرج أن يجعل الفيروسات تتحرك من أقصى الجنوب الى أقصى الشمال كي تتطابق الحركة مع اندفاع القوات الأنكلو- أمريكية التي إنطلقت من الكويت وبعض بلدان الخليج العربي التي تحتضن القواعد الأمريكية المعروفة، ولا بأس في أن تتحرك بعض الموجات الفيروسية من شرق العراق وغربه في إشارة واضحة موجات الشقاق الطائفي التي بثتها بعض البلدان الاسلامية والعربية المحيطة بالعراق).
وقد ذهب المخرج جمال أمين بالرمز الى أقصى حدوده حينما وقع اختياره على هذا العنوان شديد الدلالة. فكلمة " فايروس " كما هو معروف لاتينية وتعني " السُم " وأكثر من ذلك فهي جُسيمات مُعْدية تُبدي خصائص الحياة كالتكاثر والتضاعف مُستعينة بخلايا الجسد المُضيف التي تتم السيطرة عليها من قبل الفايروس. وما أكثر وجوه الشبه بين أفعال الاحتلال وأفعال الفيروسات التي رأيناها عبر الفيلم تفتك بخلايا العراق وشرايينه الدقيقة. من هنا فإن اختيار العنوان دقيق وموفق ومُوغل في رمزيته.
بنية القصة السينمائية
على الرغم من أن الفيلم وثائقي بالدرجة الأساس، ويحتاج غالباً الى سيناريو يُكتَب بعد التصوير، إلا أن المخرج جمال أمين يميل الى تطعيم بعض أفلامة بمسحة روائية. وحينما نقول مسحة فإننا نعني أن هناك لمساتٍ روائيةً تخرج عن حدود السرد الوثائقي. ففي هذا الفيلم ثمة تصعيد درامي في سياق النقاش الذي يحتد ويصل بالأصدقاء العراقيين الخمسة الى حد القطيعة. فقد ترك ثلاثة أشخاص منهم الميكروباص، واستقلوا سيارة أخرى كي توصلهم الى أقرب محطة قطار ثم يعودوا الى مدينة أودنسة التي انطلقوا منهما مجتعين.
هنا تصل القصة السينمائية الى ذروتها في تصاعد درامي ملحوظ، غير أن الأحداث تأخذ منحىً آخر حينما يستقلوا سيارة " سادات " وهو لا جئ أوغندي لا يجد ضيراً في أن يقلهم الى المحطة القادمة حيث يصادفوا سيارة أصدقائهم عاطلة على قارعة الطريق فيقرروا دفعها جميعاً وكأنهم يدفعون " عراقاً عاطلاً ويائساً من حركته الى أمام! ".
هذا السياق التصاعدي يكشف عن بنية روائية أو قصصية في أضعف الأحوال. أما السمة الروائية الأخرى فإن الفيلم برمته ينتمي الى " أفلام الطريق ". ولو تمعنا في نقطة البداية التي انطلق منها العراقيون الخمسة الذين ينتمون الى قوميات ومذاهب مختلفة فسنجد أنها مدينة اودنسه، وهي ذات المدينة التي يعيش فيها المخرج جمال أمين والشخصيات الخمس التي جسدت أدوارها في فيلم " فايروس " أما نقطة النهاية المُفترضة فهي مدينة أورهوس.
أي أن أحداث هذا الفيلم كانت تتجسد خلال ست وثلاثين دقيقة على هذا الطريق الممتد بين أودنسة وأورهوس . كان الحوار السردي روائياً في الكثير من جوانبه، وبالذات حوارات " فرقد " الذي ينتمي الى أسرة شيعية- سنية في آنٍ معاً. فأبوه رجل شيعي وأمه سنية، هذه الحوارات السريعة والتي تلعب غالباً على أوتار حساسة قد سارعت في الوصول الى الحدث الأهم، كما سارعت في تثويره وحسمة بسرعة غير متوقعة، خصوصاً وان " فرقد " كان يتحدث بلغة ماكرة يمتزج فيها الجد بالسخرية الى الدرجة التي قد تربك المتلقي وتشوشه. ولكي لا نسترسل في التفاصيل الروائية الأخرى لا بد من الاقرار بأن الفيلم كنوع سينمائي ينتمي الى ما يمكن تسميته بـ " Docufiction " وهو أسلوب يمزج بين الفيلم الوثائقي من جهة والروائي من جهة أخرى.
شخصيات الفيلم
إنتقى المخرج جمال أمين خمسة أشخاص وهم جميعاً لم يمارسوا التمثيل من قبل. أربعة منهم عرب وهم فرقد، مصطفى، محمد وجليل، وواحد كردي وهو جيّا. وبين الأشخاص العرب إثنان ينتميان للمذهب الشيعي وهما السائق مصطفى وجليل، والثالث سني وهو محمد، والرابع " شيعي – سني " وعلى الرغم من أن المخرج لم يغَّطِ كل القوميات وكل الأديان الموجودة في العراق مثل التركمان والكلدوآشوريين والإيزيديين والصابئة إلا أن النماذج التي حضرت كانت كافية للتعبير عن طبيعة التجاذب الذي يحدث بين القوميات والاديان والمذاهب العراقية المتنوعة.
ويبدو أن الميكروباص لم يتسع إلا لهذا العدد المحدود مُضافاً إليه المصور الذي كان يجلس في المقعد الأمامي والمصور الثاني الذي كان يجلس الى يمين "فرقد " الشخصية الأساسية التي هيمنت على الجزء الأكبر من الحوار.
من الواضح أن فرقداً كان شخصية قائدة وبيدها زمام الأمور. فهو الذي يتصل هاتفياً بالبقية الباقية من أصدقائه، كما أنه هو الذي يصدر بعض الأوامر مثل الانطلاق من أودنسه، وسرد النكت، وإدارة دفة الحديث وما الى ذلك. وهو للمناسبة شخصية مرحة، مقبولة، وخفيفة الظل، هذا إضافة الى كونه مُحاوِرا جيدا قادرا على أن يمزج الجد بالهزل، ويصل الى غاياته واهدافه بطريق ملتوية، ولا يجد ضيراً في التعرّض للآخرين والتجريح بهم حتى لو لإقتضى الأمر اللجوء الى الوعيد والتهديد.
يبدأ فرقد حديثه بنكتة الحمار والقرد اللذين دبَّ إليهما السأم والضجر وبدءآ يتذمران. وكان الحمار يخشى أن يمسخهما الله. فرد عليه القرد متهكماً " ماذا يمكن أن يمسخنا الله وأنا قرد وأنت حمار! " وكعادة السائق مصطفى المدمن على سماع المأساة الحسينية ليل نهار. ففي صبيحة عطلة هذا الأسبوع كان يستمع الى " المَقتل الحسيني " ولم يقْدم على تغيير الكاسيت إلا بعد إلحاح الجزء الأكبر من الأصدقاء بما فيهم جليل الذي تخلو شخصيته من بعض التعصب الديني. ومن خلال هذه الكوّة يدخل فرقد في حوارات متشعبة متحرشاً بالسائق مصطفى، وجيا الكردي، وجليل الشيعي الذي يتخذ الكثير من المواقف الوسطية للتوفيق بين الأطراف العربية والكردية من جهة، والسنية والشيعية من جهة أخرى. وبما أن " جيا " الكردي يدخن سجائر المارلبورو فإنها سانحة الحظ بالنسبة لفرقد لكي يتهمه بالتأمْرك مثلما إتهم مصطفى الذي يدخن سجائر سومر العراقية بتبعيته لإحدى دول الجوار التي أمعنت في التدخل بالشأن العراقي. ثم يحتدم النقاش مع " جيا " الذي أُستُفِزَّ حينما ذَكَرَ فرقد اسم البارزاني. وفي معرض دفاعه عن القضية الكردية يؤكد " جيا " بأن لغته لا تُشبه اللغة العربية، وعاداته لا تشبه عادات العرب، وأنهم أمة متكاملة، ولهم علم كردي مرفوع الى جانب العلم العراقي غير أن العلم الكردي أعلى من العلم العراقي بقليل! ثم يأخذ النقاش منحىً آخر مع السائق مصطفى الذي لا يرى الحياة إلا من منظار المعاناة، وجَلد الذات، ولاستماع الى القراءات الحسينية. فحينما يحاججه فرقد بأن هناك مناسبة دينية لأحد الأئمة الشيعة قد إنصرمت قبل بضعة أيام يرد عليه مصطفى بأن شهر محرم الحرام على الأبواب في حين أن المدة الزمنية التي تفصلهم عن محرّم هي ثلاثة أشهر. وحينما تزداد مطالبة الآخرين بسماع بعض الأغاني الترفيهية لأنهم في رحلة عطلة الأسبوع وليسوا في مأتم يصر مصطفى وهو سائق الميكروباص، ويحتمل أن تترحل إليه دلالة القيادة بصيغة رمزية، على أن الذي يريد أن يستمع للمقتل الحسيني فعليه أن يبقى في السيارة، ومن لا يريد أن يستمع للمقتل الحسيني فعليه مغادرة السيارة أو بمعنى آخر مغادرة العراق. هكذا بدأت تضيق مساحة الوطن. فـ " جيا " يريد علم كردستان أعلى من علم العراق، ويرى في البارزاني " قِبلة الأكراد " ولا يريد أن يقبل بأي وجه من أوجه التشابه الموجودة بين العرب والكرد. كما أن مصطفى لا يقبل بأي عراقي ما لم يستمع الى مأساة الحسين، ويصبح أسيراً للتاريخ الذي إندثر منذ 1400 سنة تقريباً. أما جليل فكان شخصية وسطية تبرر لمصطفى وجيا ومحمد وحتى الى فرقد في بعض الأحيان. أما محمد فقد كان الأقل حظاً في التعبير عن وجهات نظره. إن أثرى الشخصيات وأعمقها هي من دون شك شخصية فرقد كونه ينتمي الى المذهبين السني والشيعي في آن معاً. كما أنه ضحية للنظام السابق، وقد فقد " 18 " شخصاً من أسرته وأسر أقربائه. وهو يحب العراق من دون شك، ولكنه يريد للجميع أن ينضووا تحت رايته حتى لو تطلب الأمر ظهور شخصيات قمعية لا تتعامل مع العراقيين إلا بلغة الحديد والنار والغازات السامة.
إستعان المخرج جمال أمين في لحظة التوتر التي أفضت الى إنفصال الأصدقاء العراقيين الى مجموعتين بقصيدة " غريب على الخليج " لبدر شاكر السيّاب، وهو شاعر عراقي مُحَبَب الى شرائح واسعة من الشعب العراقي، كما إستجار بصوت الفنان العراقي فؤاد سالم الذي كان صوته يتماهى مع إسم العراق لانقاذ ما يمكن إنقاذه من تمزق وتشرذم شطَر هذه المجموعة العراقية الى شطرين متباعدين، ويبدو أن الأغنية لم تكن " تتفجر في قرارة نفس الشاعر الثكلى " حسب، وإنما كانت تتفجر في أعماق الشخصيات الخمس التي ترمز الى العراق كله وتُحيل إليه بمختلف مكوناته الاجتماعية.
لنستمع الى هذا المقطع الشعري المعبِّر للسياب وهو يُغنّى بصوت فؤاد سالم الممتلئ حنيناً وعذوبة: " صوتٌ تفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق / كالمد يصعدُ كالسحابة، كالدموع الى العيون/ الموج يصرخ بي عراق / والريحُ تعْوِل بي عراق، عراق، ليس سوى عراق"
الخاتمة التعبيرية
حينما ينقسم الأصدقاء العراقيون الخمسة الى قسمين، ثلاثة يترجلون من الميكروباص " رمز الوطن مجازاً " بينما يبقى المتشددون فيه، ويقودونه الى الهدف المرسوم له سلفاً يتعطل في منتصف الطريق، بينما الحياة تسير وكأن شيئاً لم يكن. وحينما يصل الأصدقاء الثلاثة الذين ترجلوا سابقاً يشاهدون " الميكروباص أو العراق " عاطلاً على قارعة الطريق. وبلقطة بليغة جداً قد تمثل عصارة الفيلم يطلب مصطفى، السائق المتشدد الذي قمعهم غير مرة، أن يدفعوا " الميكروباص أو العراق " دفعة صغيرة علّه يتحرك، ويندفع الى أمام!.
الصباح الجديد
الصباح الجديد