خفة الكائن التي لاتحتمل
فراس عبد الجليل الشاروط فراس عبدالجليل الشاروط ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاقتباس السينمائي للرواية عملية صعبة ومعقدة، فقد فشل كثيرون في نقل روح النص الأدبي للسينما، ونجح آخرون معطين روحا جديدة وقراءة أخرى للنص الأدبي ليكرسوا لنجاح الرواية نجاحا سينمائيا وخير مثال على ذلك فيلم المخرج انتوني مانغلا الموسوم المريض الإنكليزي والذي أعده من وجهة نظر شخصية أفضل مثال للاقتباس الحر وهو مأخوذ عن رواية مايكل اونداتجي بنفس الاسم... وفي فيلم ( خفة الكائن التي لا تحتمل) تبدو مهمة المخرج (فيليب كوفمان) صعبة نوعا ما وذلك بسبب: كون الرواية هي رواية الكاتب التشيكي الكبير ميلان كونديرا، واحدة من أفضل وأصعب روايات القرن المنصرم والتي يمكن أن نطلق عليها رواية إشكالية لتشابك نظم السرد والروي فيها وتقاطع مصائر الأبطال، وهي تتحدث عن ربيع براغ من عام 1968 عندما تسللت الدبابات السوفيتية إلى شوارع المدينة ليلا لتمحو ذلك الربيع تدريجيا، والفيلم مثله مثل الرواية يتحدث عن ذلك التغلغل السوفيتي في تشيكوسلوفاكيا من خلال قصة حب بين توماس وسابينا ثم توماس وتريزا ثم تريزا وسابينا وهي خلفية للأحداث ويفصل دراميا بين فترتين: الجزء الأول نتعرف فيه على مسيرة الطبيب الشاب توماس الدون جوان الحديث وزير النساء الذي لا هّم له سوى حب الفتيات ولا يعبأ بما يحدث حوله سياسيا أو حتى اجتماعيا هكذا يقضي أيامه بين النساء والمستشفى حتى علاقته مع الفنانة التشكيلية سابينا لا تخلو من مرح وخفة تحت ليل براغ الآمن. في الريف يلتقي توماس بتريزا وهي عاملة في مقهى المستشفى تترك عملها وتلتحق بتوماس في براغ لتنشأ بينهما قصة حب وسلوتهما الوحيدة رواية آنا كارنينا لتوليستوي، يقع الدكتور في حب القروية ذات العينين الخضراوين العاشقتين للقراءة، يتزوجها ويعثر لها على عمل بمساعدة صديقته سابينا، في أحدى الليالي تضيق تريزا بغراميات توماس فتحمل حقيبتها وتخرج وما أن تصل إلى الباب حتى يغزو المدينة ضجيج، صوت من أعماق الخوف، ضوء يخترق ظلمة الليل الآمن، يلحق بها توماس يطوقها بذراعيه ويتفرجان على الدبابات السوفيتية وهي تقتحم شوارع براغ، ينتهي الجزء الأول من الفيلم ويبدو أن المخرج قد نجح إلى حد ما في تصوير الحس الساخر للرواية من خلال لغة سينمائية شفافة ومحببة كاشفا أبعاد شخصياته وهمومها ومشاعرها وملامح الواقع الذي تعيش فيه لننزلق معه في
متعة بصرية وسحر سينمائي حقيقي، ولكن الحال تنقلب في الجزء الثاني من الفيلم ليتبدل الإيقاع وتتغير الروح من المرح إلى الجدية، طراوة الجسد اللين أمام بساطيل الجنود الخشنة، تريزا الرومانسية بأحلامها، الواقعية برؤيتها بما يحيط بها، تتحول بفعل واقع الاحتلال الجديد إلى جسد متصد خفيف الحركة، فهي الشاهدة على موت الحرية، هنا تختفي روح خفة توماس لنقف أمام قوة روح تريزا.تسافر سابينا إلى جنيف مع طوابير طويلة للمهاجرين، ويبقى توماس وتريزا شاهدين على مجزرة العصر وموت الربيع، وتصبح عين تريزا المصورة الفوتوغرافية هي الموثقة للحقيقة ولكن لا يمكن الصمود أكثر من ذلك، يهاجر الزوجان ليلحقا بسابينا، ويعمل توماس في الطب، وتضيع سابينا بين الحب وفقدان الهوية، وتوثق تريزا صور المقاومة ضد الدبابات السوفيتية على رؤساء تحرير المجلات فيطلبون منها صورا أخرى لمواضيع بعيدة فزمن المقاومة قد ولى.
توماس بقي مثلما هو لا يعبأ بما يجري حوله ولا بد انه أصبح سويسريا كي لا يهتم كما تقول تريزا، لذلك فهي ترفضه، وترفض بشدة منطق الطير المحلق دون جاذبية تشده إلى ارض الواقع، تستميل إلى سابينا وتتعرى أمامها بلا حياء للمرة الأولى في مشهد غاية في العذوبة والرقة، هي ترفض ألعاب سابينا، وليونة الغرب، ولا مبالاة توماس، خفة الوجود هذه لا يمكن لمن هم على شاكلة تريزا قبوله، العيش بلا مسؤولية فتقرر العودة للوطن، فالغربة هناك على أرضه أفضل من أن تعيش لاشيء في بلاد لا تعرفها ولا تعرفك لتفقد نفسك وهويتك.وننتقل مرة أخرى إلى براغ ومع خطوات تريزا الخائفة تتغير ألوان الفيلم إلى باهتة، كل شيء واقف ويلتحق بها توماس فيعيشان حياة مملة وعبثية ولا أمل فيها بل حتى اللون يموت فليس هنالك سوى الرمادي، وبموت كلبهما يقرران السفر إلى الريف بحثا عن السعادة ولكن القدر أسرع يخطف روحيهما في حادث سيارة، وتبقى سابينا وهي تهاجر إلى الولايات المتحدة وحيدة، نظراتها تعانق الأرض ودموعها هي ملاذها الوحيد.ربما أصاب الفيلم في جزئه الثاني شيء من الرتابة والملل والتطويل، جاذبية الجزء الأولى لم تتناسب مع خفة الجزء الثاني التي لا تطاق حيث انتقل المخرج من تصوير مشاهد الحب والغيرة والعشق واللحظات الإنسانية الرقيقة إلى الحرب والتنافر والسفر من براغ إلى جنيف إلى أميركا وفكك الشخصيات بدل من تقاربها، لقد أراد فيليب كوفمان بذلك أن يوصل إلينا ملل الإبطال ورتابة حياتهم وجمود حركتهم، لذلك جاءت كل حركات الفيلم أشبه بحركة موسيقية بين ارتفاع وانخفاض، بين توقف وحركة حيث ينتقل بنا من حركة الحب إلى توقف الخارج وموته.بذل مدير التصوير جهدا رائعا في تصوير مشاهد الحب مركزا فيها على اللقطات الكبيرة للوجوه والأيدي والعيون وتأوهات اللذة، كما برع ثلاثي التمثيل الممتاز الذي اختاره المخرج الممثل الايرلندي دانيال دي لويس والفرنسية جوليت بينوش والسويدية لينا أولين، انسجموا مع أدوارهم وأدوا مشاهد غاية في الروعة ستبقى ماثلة في الذاكرة سنوات طويلة، أخرج فيليب كوفمان فيلمه هذا عام 1989 عن سيناريو كتبه جان كلود كاريير (وهو السيناريست الذي برع في كتابة سيناريوهات أفلام المخرج لويس بونويل) عن رواية للكاتب ميلان كونديرا كتبها في فرنسا عام 1982، لقد نجح كوفمان في مغامرته هذه برغم انه مخرج أميركي أي انه يعتمد على الحركة واللقطات الكبيرة والاختصارات فيما النص الذي بين يديه مع السيناريو والممثلين والأحداث هي أوربية، كانت تجربة وناجحة لكوفمان إلى حد ما.
Previous posts