العطر روايةً وفيلماً
أسطورة السرد وواقعية السينما
- العطر روايةً وفيلماً -
ماجد موجد
لم يكن (ميلان كونديرا) يقصد تلك الروايات التي تتحدث عن الطبقات الاجتماعية أو فتنة الموضوعات ذات المنحى الرومانسي عندما قال ما معناه : ان الرواية ستفقد الكثير من مغزاها حين تتحول الى فيلم، لا سيما عندما اضاف لها وصف الرواية العظيمة، فهو حتما يقصد منها تلك التي تكون موضوعاتها تبحث في أسئلة كبرى ازاء الوجود الانساني وصراعات الذات للتعرف على مصيرها، مقولة كونديرا تلك ظلت عقبة أمام عدد من المخرجين في العالم كلما حاولوا الاقتراب من تلك الروايات ومنها على سبيل المثال رواية (العطر) للالماني (باتريك زوسكيند) وهو العمل الاول له، اصدره في العام1985 في السادسة والثلاثين من عمره فلم يكن قد كتب شيئا سوى مسرحيته الوحيدة ((عازف الكونترباس) مونودراما في فصل واحد في العام 1981 وأصبح فيما بعد صحافيا ناجحا، درس التاريخ في جامعة ميونخ وفاز في العام 1987 بجائزة غوتنبرغ.
يذكر ان روايته ترجمت الى اكثر من عشرين لغة ما لفت اليه انظار المخرجين ومنهم (مارتن سكورسيزي) و (ستانلي كويبريك) وقد فعلا المستحيل وهما يفكران في نقلها الى السينما، لكن طبيعة الرواية وتناولها لأفكار قد تبدو مجردة تسبح في الخيال كما بدا لهما ما (جعل من مهمة التحويل مهمةً صعبة بل أقرب إلى الاستحالة،) الأمر الذي جعلهما يصرفان النظر عن خوض مثل هذا التحدي العسير.
1
بقيت الرواية بعيدة عن السينما حتى العام 2001 حين اشترى الممثل (داستن هوفمان) حقوقها بمبلغ كبير كان نصيب كاتبها (زوسكيند) فقط قد بلغ عشرة ملايين يورو، وقد أوكلت مهمة إخراج الفيلم الى المخرج (توم تايكوير) مواطن (زوسكيند) حين اقتنع بقدراته بأنه سيفلح بايصال فكرة الرواية التي اتخذت ثيمتها الأساس من حاسة الشم، اذ يرى متخصصون ان هذه الحاسة من الحواس الشائكة في طبيعة عملها وهم الى الآن لم يتعرفوا بعد على الكيفية التي تجعل الانسان يفرق بين عشرة آلاف رائحة بمستقبلات كيميائية تجاوزت العشرة ملايين مستقبل، وبحسب أحدهم وهو يلقي محاضرة عن هذه الحاسة التي تعد مهملة في العناية بها: أننا في الخطوة الاولى في الألف خطوة نحو معرفة اسرار الأنف. ولكن أحقا أن (زوسكيند) كان يريد أن يسترعي انتباهنا الى حاسة الشم وقدراتها على تفحص الروائح والعطور أم كان يريد أن يدلنا على فكرة أخرى وهي مختبرات تلك العطور والروائح من خلال استعراضه لاعداد كبيرة من المواد الخام التي تدخل في صناعتها حتى كأن روايته اطلس لمختبرات الروائح، وهل هاتان الفكرتان هما فقط ماجعل مخرجين مهمين ان يتوخوا الحذر كثيرا ثم يعدلوا عن الشروع في نقلها الى السينما. قد تكون حاسة الشم وعملها في تحسس العطور واحدة من المفاصل المهمة، لكنها ابداً لم تكن الفكرة الأساس ذلك ان هذه الرواية كل مفصل من مفاصلها يبدو معقدا، بل ان كل مفصل هو فكرة تحتاج لوحدها ان تبحث وتخرج بوصفها فيلما حسب تقييم عدد من المخرجين الذين وجدوا صعوبة في اخراج الرواية كاملة في فيلم واحد وهو ما نجح بفعله البارع (توم تايكوير) فعلى الرغم من انه استطاع ان يجعل المشاهد يتشمم العطر والروائح من شاشة العرض لكنه ايضا مرَّ على الزخم الكبير من الافكار التي تريد الرواية ايصالها عبر ســــرد ووصف دقيق في اكثر من مائتين وخمسين صفحة، في سيناريو قصير للغاية لا يتعدى صفحتين او ثلاث اذا ما استثنينا التعليقات التي كانت تردم بها بعض الفــراغات التي عجزت الصورة عن نقلها لكنها، أي الصورة، تمثلت اغلب مفاصـــل الرواية بشكل عجيب.
2
براعة في الاخراج وبراعة في الاداء المدهش الذي اداه الممثلون لاسيما دور البطل الممثل الانكليزي الشاب (بينيدكت ويشاو، المرعب في امكان تحوّله الى حيوان بشري) ادى الدور وكأنه هو ذاته تلك الشخصية الاسطورية الواقعية بطل الرواية (جان باتسيت غرينوي ) وأحسب أن(زوسكيند) كان مندهشا وهو يشعل كفيه بالتصفيق يوم شاهد الفيلم فوجد الشخصية هي هي كما كان يريدها بالملامح والأداء والتوصيل.فالجميع يعرف ان هناك فرقا كبيرا في أداة التوصيل بين عمل مقروء يتعامل فيه الكاتب مع ذهنية القارئ في رسم الكلمات واحالاتها ودلالاتها لايصال المضمون، ومن ثمة تبدو القراءة او القارئ سيصل الى الصورة التي يعنيها فيه ذهنه وثقافته في رسم الاحداث وماورائها وغاياتها، وبين مشهد مصور لايختلف على تأويله كثيرا، كأن الفلم هنا يقرأ ويأول نيابة عن جميع قراء العمل المكتوب بل حتى نيابة عن الكاتب ذاته، لاسيما ونحن أمام عمل كما ذكرنا آنفا مليء بالمفاصل التي تعج بالاحالات والتأويلات التي لا حصر لها، فهي تشغل القارئ في فكرة وتتحدث هي عن فكرة أخرى غير ماتعنيه تماما.اكثر ماكانت تعول عليه الرواية/ الفيلم هي ثيمة قد تبدو هامشية مقارنة بالالحاح الذي يبدو في مفاصل الثيمة العامة (حاسة الشم) الا وهي ثيمة ربما مستقاة من مقولة شهيرة لـ(جان جاك روسو)، من يفسد الآخر او يغيَّره.. الفرد أم المجتمع؟ هذه العبارة هي التي بدت مفصلا مهما لمحاولة الراوي والمخرج معا لفك ملابساتها التي لم تفك وانما عرضت طرفي المشكلة من جديد ولكن بشكل اكثر شذوذا وتعمقا ومأساوية وجمالا ايضا، انها حكاية اولئك الذين ما انفكوا يطلقون اسئلة كبرى حول وجود الانسان وقصته العجيبة والمحيرة الى حد الهذيان عما يمكن ان يكون عليه وما هو مصيره في عالم يشتد غرابة وعجزاً عن الفهم.
3
تتحدث الرواية عما اسماه احد النقاد برواية الشخصية أي ان الشخصية هنا هي بوصلة العمل، الشخصية النموذج، في كل مجريات الحدث وليس الاعتماد على مجريات الاحداث لاخراج طبيعة الشخصيات المشاركة او الابطال، انها تعتمد الشخصية كقيمة فنية باستغراقها في الاختلاف مع النسق الإنساني المعتاد واتجاهها الدائم لاختراق العالم من فضاءاته الأكثر غموضاً وتعقيداً، في محاولة مستميتة لكشف حقيقة النوازع الإنسانية في أقصى تجليات عمقها، كما يفعل هنا(زوسكيند) في روايته العطر المثيرة للجدل ويبدو انه وهو الذي درس التأريخ بعناية قد تعرف على خيوط قصته من احد مسارحه المهمة وأعني هنا بشكل خاص تأريخ فرنسا، فحكاية الرواية تعود الى الوضع المتردي الذي كان يعيشه المجتمع الفرنسي في العام 1938 والمستشري فيه آنذاك العرف الطبقي ولكن هل تكون ثيمة الرواية المهتمة بحاسة الشم مبتكرة لتتلاءم مع بلد عرف بصناعة العطور؟ تبدأ الاسطورة/ الرواية /الفلم بمشهد لشخص غريب الأطوار ومقيد بالاغلال في سجن قديم ويبدو عليه عدم الاكثراث ولا تكاد عيناه تركزان على شيء ما، حتى يخبره احد السجانين انه على وشك ان ينفذ فيه حكم الاعدام، تذهب الكاميرا ( فلاش باك)بعد ذلك الى اكثر المناطق قذارة وهو سوق لبيع السمك اقيم على مقبرة جماعية تعود الى حروب غابرة في مدينة باريس حي"مونمارتر" وسط شارع "أوفير" وفي يوم حار جدا، وداخل أتون من الروائح العفنة واللاذعة التي تنطلق من كل مكان ولد "جان باتيست غرنوي"، (خرج من بطن أمه مثل قطعة لحم منزلقة على بقايا لزجة واحشاء الأسمـاك،) وكأن والدته اختارت له مصير أخوته الأربعة الذين ولدوا بنفس الطريقة وماتوا تحت الطاولة دون أن يشعر بهم أحد، (فالمنظفون في آخر النهار لم يميزوا بين الأجنة البشرية الحمراء وبين خياشيم الأسماك وبقاياها الدامية،) ولكن "غرنوي" الرضيع الذي شرب وابتلع وتنشق كل روائح باريس العفنة في ذلك النهار، أعلن عن وجوده الصارخ من خلال البكاء المتواصل والحاد، وكان هذا البكاء كفيلا بإرسال والدته إلى المقصلة.
4
كان غرنوي ذو المسامات الملساء عديمة الرائحة قد دُسَّ في وجهه انف غريب وعجيب للغاية في قدرته على الشم والتمييز بين الروائح كل الروائح (فلم يعد يشم الخشب فحسب، بل أنواع الخشب، العتيق والطازج والهش والمتعفن والطحلب،) يعرف رائحة الاجساد لجميع المخلوقات بل انه يتعرف على الأخلاق من خلال أنفه يعرف اللص والغبي والكاذب والذكي، يعرف رائحة الفلاح صباحا والقس مساء لكنه وهو الذي بلا عطر يُذكر، ظل يبحث عن رائحة لجسده هي رائحة الحياة نفسها التي تظل أقوى وأجمل من أية رائحة أخرى تنبعث من العالم الذي يعيش فيه.(حياته لم تكن أكثر من وجود حيواني غارق في ضباب كثيف يغلف معرفته بذاته، لكن هذا اليوم بالتحديد هو الذي جعله يدرك أخيراً هويته الحقيقية، أي أنه عبقري، لا ريب في ذلك، وأن لحياته معنى ومقصداً وهدفاً ومصيراً علوياً،) ـ الرواية ـ أنه الوحيد في العالم الذي يمتلك الوسائل لتحقيق ذلك، أنفه ذو الحساسية المتميزة، ذاكرته الخارقة، والأهم من كل ذلك عبق الفتاة التي كانت تبيع الخوخ وراح يتعقبها في شارع (دي ماريه) وهو يحاول ان يدس انفه ليتشممها ولكن بعد ان سمع خطوات احد المارة وضع اصابعه على فمها ليتبين انها فارقت الحياة، لم يندهش كثيرا بل كل ما فعله هو انه راح يتشمم جسدها كله، كانت هذه اولى الخطوات التي جعلته يقتل اثنتي عشرة فتاة من أجل ان يسلخ رائحة اجسادهن بطريقة مشمئزة ويقطرها بعد ذلك في مختبر خاص وفرته له احدى النساء المعنيات بصناعة العطور دون ان تعلم بجرائمه، لكنه دون أن يعثر على الرائحة التي شغلته كثيرا ربما هي رائحة الفتاة بائعة الخوخ التي اصبحت نموذجه في اكتشاف عطره الالهي او المقدس او عطر الحياة او ربما هو ذلك العطر الذي تحدث عنه صانع العطور الذي عمل معه في باريس اذ قال له: (إن الفراعنة تمكنوا من استخراج ثلاث عشرة رائحة، منها اثنتي عشرة رائحة أمكنهم تحديدها، ومعرفة خصائصها، أما العنصر الثالث عشر، فلم يستطع أحد الوصول إليه رغم أنه كان أهمهم،) ـ الرواية ـ ولأنه لم يصل الى عطره الذي كان يبحث عنه على الرغم من قتله ذلك العدد من الفتيات كان لابد له من قتل ضحيته الثالثة عشرة. (وهي أجمل فتيات مدينة جراس وابنة أكثر تجار العطور ثراء ونفوذاً ). كما أنها كانت تشبه في ملامحها الطفولية الرقيقة وشعرها الأحمر المشتعل حول رأسها فتاة السوق التي لم يستطع نسيانها.
5
تعود الكاميرا الى المشهد الاول الذي هو ذاته يمثل المفصل ماقبل الاخير من الفلم اذ يخرج غرينوي من الزنزانة التي يرقد فيها مكبلاً بالحديد، ويسوقونه وسط صراخ وتهليل عشرات الآلاف من سكان المدينة الذين تجمعوا ليشاهدوا صلبه، وحينما يتابع الجميع بما فيهم اغنياء القوم واهل الضحايا ورئيس أساقفة الكنيسة على شرفة عالية. وحين يهدؤون عند سماع الحكم والبداية بالاعدام يُخرج غرينوي قنينة صغيرة مليئة بعطره الذي استخرجه من اجساد الفتيات ليصب منه نقاطاً على منديل أبيض يُلوح به على رؤوسهم وما ان يصل العطر الى انوفهم وأفئدتهم حتى تتغير الحال تماما اذ تصبو الانظار كلها الى غرينوي بمودة ودهشة غامرة ومن ثم يذهب الجميع لتبادل القبل والعناق وشيئا فشيئا يبدؤون بالتعري تماما، الجميع يمارس الجنس مع بعض، الاجساد كلها تصبح عبارة عن جسدين شاذين او غير شاذين ليرتفع اللهاث والهسيس (ويقف رئيس الأساقفة رافعاً ذراعيه ناطقاً إنه ملاك، بل إله، وليس إنساناً مثلنا...) تحت هذا التأثير الالهي الساحر الذي انغمر به الجميع، يستطيع غرينوي ان يهرب الى باريس المكان الذي ولد فيه بلا رائحة تحت طاولة بيع السمك ووسط الصياح والروائح القذرة تلك يفرغ ما تبقى من عطره على جسده وملابسه وما هي الا لحظات حتى يتجمع حوله كل من كان في السوق وتضيق الدائرة وتضيق، واذا ما انفضوا من حوله لم يجدوا شيئا فقد التهموه من شدة الحب الذي غمرهم به عطره الغريب، وكأن هذا المشهد من الفيلم يريد أن يُؤكد ما جاء في بعض فقرات الإنجيل حول تضحية عيسى بجسده من أجل إنقاذ البشرية جمعاء. كما يؤكد اكثر النقاد الذين تناولوا الرواية /الفيلم، فكما هي عادة الحقب المظلمة والعصور الداكنة فإن ظهور "المخلّص" أو "كائن النور" هو ظهور مشفوع بغـرابة وعزلة وشطحات سلوكية طالما ارتبطت بشخصية هذا "المخلّص" وطالما وضعته في الجهة المضادة من الأعراف العامة والطقوس الجماعية وللمعتقدات المتداولة والمتوارثة فلا شيء جديداً الا بموت القديم.و من سحر هذا الكائن البشري ، و (بنوازعه الخطيرة والطاهرة في آن والموزعة بين صورتي الوحش والملاك)، هذه العجينة الغريبة من تعدد الوعي والمشاعر اتجاه الوجود من هذا النقيض المربك والممزق والحافل بالحقائق والشعوذات والجمال والقبح والفراديس والمهالك، خرجت رواية "العطر" (الحابسة للأنفاس كي تحدث الصدمة الحسيّة والروحية المزلزلة التي لامست القراء المذهولين في مختلف أرجاء العالم)، رواية كان على السينما أن تتلقفها باكرا، (ولكن "زوسكيند" نفسه لم يكن على قناعة بقدرة الرواية على نقل الرائحة إلى أنف القارئ، فما بالك بالصورة السينمائية)، ولكن هذا ما استطاع فعله المخرج (توم تايكوير) بل نجح الى حد بعيد من تقريب الاسطورة المكتوبة الى واقع مشاهد فما كنت تتشممه ذهنيا في مدار خيالك بين الحروف وانت تقرأ الرواية جاءت مشاهد الفلم لتردم هوة الشك بيقين انك تشم كل عطر ورائحة من خلف الشاشة وقد تفطر قلبك لتدرك انه مامن خير مطلق ولاشر كذلك وما الفرد والمجتمع الا كلاهما يصنع الآخر.
عن الصباح العراقية