السينما العراقية في ظل الاحتلال
قاسم حول
ما جدوى صناعة سينما من دون صالات عرض سينمائية؟!
* للعراق تأريخ عريض في طقوس المشاهدة السينمائية. ويتمثل ذلك في عدد صالات السينما المنتشرة في كافة أنحاء العراق. وقد جرى أول عرض سينمائي في العراق عام 1909 أي بعد خمسة عشر عاما من اختراع فن السينما حسب بحث المؤرخ العراقي الراحل أحمد فياض المفرجي. فقد تم عرض فيلم سينمائي وثائقي في دار الشفاء في الكرخ ما حدا بالتجار العراقيين إلى استثمار أموالهم في مجال عروض الأفلام السينمائية وتم بناء صالات عرض سينمائية سرعان ما انتشرت في أنحاء العراق.
عندما بدأت العروض السينمائية في العراق كان على أصحاب صالات السينما إقناع النخبة من التجار وأصحاب المال بأن الكراسي الخلفية في صالة السينما هي الأهم من الكراسي الأمامية بعكس المسرح، ولم يكن من السهولة إقناع هؤلاء الأثرياء بالجلوس في المقاعد الخلفية، حتى تم تقسيم صالات العرض السينمائية إلى ثلاثة مستويات. الطابق الأرضي وفيه مستويان المقاعد الأمامية وكان ثمنها أربعين فلسا والمقاعد الخلفية وكان ثمنها سبعين فلسا. أما الطابق العلوي فيقسم هو الآخر إلى مستويين. المقصورات وتقع أمام الطابق العلوي الذي يشكل نصف حجم الصالة وكان في المقصورة الواحدة أربعة مقاعد وثمن المقصورة ستمائة فلس، وتأتي بعدها مقاعد الطابق الثاني وكان سعرها مائة وثلاثين فلسا.
ومع تطور الواقع الاقتصادي والاجتماعي العراقي تطور بالضرورة الواقع الثقافي، فتم بناء صالات سينما حديثة. وتقسمت هذه الصالات نفسها إلى مستويات ذات طابع ثقافي فصارت بعض صالات السينما، خاصة الحديثة منها تعزف عن عروض الأفلام العربية لأنها ترى في الفيلم العربي مستوى فنيا هابطا لا يليق بمستوى الصالة، فكانت سينما الخيام وسينما غرناطة في بغداد على سبيل المثال لا تعرض سوى الأفلام الأمريكية والفرنسية والإيطالية ومثلها في البصرة سينما الوطني الشتوي وسينما الوطني الصيفية «المفتوحة» وسينما الميناء في المعقل. وهناك صالات سينما تعرض نخبا من الأفلام العربية إضافة إلى الأفلام الأوروبية والأمريكية ومنها سينما النصر وسينما بابل بغداد وفي البصرة سينما الحمراء الجديدة. أما بقية الصالات في باقي المحافظات فإنها تعرض كافة الأفلام العربية وغير العربية.
الذي يريد الذهاب الآن إلى تلك الصالات السينمائية سيجد نصبا للخراب، بقايا بناء، فجوة عريضة في سقف صالة سينمائية أحدثتها قذيفة صاروخية، جزءاً من شاشة بيضاء راكنة على نصف جدار صالة، عموداً كونكريتياً يشبه الأعمدة اليونانية المتكسرة أثناء الحفريات في التنقيب عن الآثار. اسم الصالة مكتوب نصفها والنصف الآخر بقايا تراب، ماكنة عرض صدئة لا تدور وعلباً عريضة في داخلها أشرطة سينمائية بداخل تلك الأشرطة آلاف الممثلات الجميلات والممثلين الجميلين لا يتحركون وربما ثمة زاوية من بقايا مقصف تحول إلى مقهى صغير من دون إيجار يقبع فيه رجل مسن يبيع الشاي للمارة.
عندما سقط النظام الشمولي الدكتاتوري في العراق، حدث فراغ في مجال السينما مثل ما حصل في بقية أدوات التعبير الثقافية المرئية والمكتوبة والمسموعة. ولكن في مجال السينما كان الفراغ واضحا وصارخا ومربكا. ولقد كان المعتقد بأن الانتقال غير المدروس والفوضوي من نظام سياسي حديدي إلى نظام سائب لم يتلمس طريقه في شكل الدولة ونظام المجتمع هو السبب في ضياع الثقافة السينمائية على مستوى الإنتاج والمشاهدة. ولكن نظرة منتبهة إلى هذا الواقع تؤكد لنا حقائق أخرى غير حقيقة الانتقال من نظام إلى آخر بشكل كامل وفي كافة مجالات الحياة تتعلق بالآيديولوجيا السياسية. مسألة إعادة بناء الصالات أو ترميم الأفلام التالفة أو إيجاد حلول للأفلام المفقودة لا تكمن بصاروخ نسف صالة سينما الخيام وسينما الوطني وسينما غرناطة وسينما بابل. والمسألة لا تتعلق أيضا بإحراق الأفلام العراقية بأصولها السالبة ونسخها الموجبة، بأفلامها الوثائقية وأفلامها الروائية. كل ذلك يمكن ترميمه ويمكن إيجاد حلول للأفلام المفقودة في بلد يغفو على بحر من النفط والكبريت والزئبق الأحمر. ولكن المسألة تتعلق بالآيديولوجيا الخطيرة التي تسود اليوم المجتمع العراقي الذي أصبحت فيه الكاميرا السينمائية آلة خطيرة لأنها تكشف الواقع الموضوعي.
يتساءل الكثيرون كيف يمكن أن نقيم صناعة سينما في العراق بعد سقوط النظام الشمولي؟
في كل بلدان العالم وفي ظروف تشبه ظروف العراق ما بعد الاحتلال بهذا الشكل أو ذاك، تؤرخ السينما عن وجود أفلام أنتجت في الظروف الصعبة أو حتى المستحيلة. ويمكن أن يحصل هذا في العراق ولكن مثل هذه الأفلام تعتبر استثاءات وليست قاعدة. مثل هذه الأفلام لا تنتج سينما عراقية لأنها حالة استثنائية، فالسينما هي قاعدة مادية للإنتاج السينمائي ونظم مالية ومؤسسات توزيع تحقق تراكما كميا ينتج بالضرورة تراكما نوعيا وتتفاعل الحركة السينمائية بين معاهد التدريب المهني والأكاديمي وبين شركات الإنتاج وشركات التوزيع أو المخرجين المنفذين وتتأسس صحافة سينمائية تواكب العملية الإنتاجية وتخضعها للنقد والتقييم. إن السينمائيين العراقيين داخل العراق يكافحون اليوم وسط ظروف لا إنسانية حتى على مستوى العيش وتحريك كاميراتهم محفوف بالمخاطر. لقد نفذ أحد المخرجين في العراق فيلما وثائقيا وثمة لقطة في شارع يسير فيه الناس، واللقطة عامة وليس فيها تركيز على وجه معين. بعد فترة وبعد أن عرض الفيلم في التلفزة وعرف اسم مخرجه توجه إليه شخصان من عائلة ظهرت صورة أختهما في الفيلم وطالبا المخرج بدفع مبلغ كبير أو بفقدان حياته ما أضطر المخرج لمغادرة العراق ولم يكن راغبا بترك وطنه وكان مصرا على تحقيق سينما عراقية حتى في ظروف العراق الصعبة. إن المهمة التي تقع على عاتق السينمائيين العراقيين تتمثل الآن في شقين، الأول محاولة استعادة ما تلف من الأفلام. فالسينما العراقية ومنذ بداية الأربعينات أنتجت وحتى نهاية الحقبة الشمولية الدكتاتورية أكثر من مائة فيلم روائي. وهذه الأفلام كان بعضها من إنتاج مؤسسة السينما العراقية وكثير منها أنتجته المؤسسات السينمائية الخاصة. وكانت أغلب تلك الأفلام مخزونة لدى ستوديو هاماز وهو ستوديو يقع في الطريق بين بغداد وبغداد الجديدة. وفي الحقبة السابقة للنظام الشمولي تم الاستيلاء على كافة الأفلام المخزونة في ذلك الستوديو وتحولت ملكيتها «نهبا» إلى الدولة العراقية ومؤسستها السينمائية. كافة هذه الأفلام اختفت مع دخول الاحتلال. قيل إنها أحرقت وقيل سرقت. في حال تم التأكد من الأفلام المحروقة فينبغي البحث عن النسخ الموجبة والموجود بعضها لدى مؤسسات مهرجانات السينما في العالم ومحاولة عمل نسخ نظامية منها. وبعدها يصار إلى تأسيس مكتبة سينمائية للفيلم العراقي خارج العراق بدعم من منظمات دولية تعنى بالثقافة مثل منظمة اليونسكو. أما الشق الثاني من المهمة الملقاة على عاتق السينمائيين العراقيين فيتمثل في إنشاء صندوق لدعم السينما العراقية داخل العراق وتقديم الدعم للسينمائيين العراقيين الذين يعملون في ظروف إنتاج قاسية وتوفير فرص المونتاج خارج العراق والمشاركة في مهرجانات السينما ومثل هذه المهام تحتاج إلى صندوق مالي. نحن هنا نتحدث عن بلد اسمه العراق وليس الصومال أو جيبوتي. وعلى الدولة أن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية والسياسية في تأسيس مثل هذا الصندوق الذي لا يكلف الكثير من ميزانية بلد صرح بميزانيته لهذا العام ما قدره ثمانية وأربعون مليارا من الدولارات.
الدولة العراقية اليوم والاحتلال بشكل قانوني يتحملان مسؤولية الخسارة التاريخية والحضارية التي حلت بالثقافة السينمائية العراقية. فهل نحن أمام محكمة محلية أو دولية يقف فيها أمامنا نخب من ضباط الجيش الأمريكي وعدد من الساسة والوزراء العراقيين ورجال البرلمان العراقي. وكيف يصار إلى محاكمتهم وتحميلهم مسؤولية ما جرى للفيلم العراقي والسينما العراقية.
علينا أن نتصور فنانا عراقيا نشأ شابا ودرس السينما وعمل على تأسيس صناعة سينما عراقية فتمكن من إخراج بضعة أفلام روائية وعدد من الأفلام الوثائقية وأصبح فخورا بإنجازه الثقافي، حيث أضاف لتأريخ بلاده إنجازا حلم به كثيرا ونجح في تحقيقه وهو متيقن، مثل ما يحصل في كل بلدان العالم أن نتاجه الثقافي هذا محفوظ في المكتبة السينمائية وفي ظروف حفظ نظامية. يسقط النظام السياسي لأي سبب من الأسباب وبأي طريقة من الطرق المحلية أو الدولية، عبر انقلاب عسكري عربي أو عبر احتلال أمريكي دولي. ويفيق فجأة وبعد كل سنوات العمر بأن كل الذي جاء من أجله للحياة قد تم حرقه. كل تلك الأحلام وكل تلك الأفلام وكل عراك للمعوقات التي واجهته وتمكن من تجاوزها وجلس قرير العين مطمئنا أنه أضاف قيمة لتأريخه الثقافي ولتأريخ العراق السينمائي فيضيع كل شيء وينتهي كل ذلك التاريخ وتتلف كافة الأصول السينمائية التي تضم داخلها عشرات الممثلين الذين مات بعضهم وبعضهم الآخر صار كهلا وتضم داخلها شوارع العراق ونخيله وأزقته وهو لم يفكر يوما أن يطبع نسخا من تلك الأفلام ويحفظها خارج بلاده، ولماذا عليه أن يطبع نسخا إضافية وكيف يمكن أن يحفظها خارج بلاده. إنها عملية شبه مستحيلة وغير مألوفة.
هذا بالضبط ما حصل للسينما العراقية .. وكأن هذا المخرج وغيره لم يولدوا أو هم بحاجة إلى أن يعودوا مرة ثانية صغارا ويحلموا في سينما عراقية جديدة .. وهنا يكمن المستحيل!
عندما بدأت العروض السينمائية في العراق كان على أصحاب صالات السينما إقناع النخبة من التجار وأصحاب المال بأن الكراسي الخلفية في صالة السينما هي الأهم من الكراسي الأمامية بعكس المسرح، ولم يكن من السهولة إقناع هؤلاء الأثرياء بالجلوس في المقاعد الخلفية، حتى تم تقسيم صالات العرض السينمائية إلى ثلاثة مستويات. الطابق الأرضي وفيه مستويان المقاعد الأمامية وكان ثمنها أربعين فلسا والمقاعد الخلفية وكان ثمنها سبعين فلسا. أما الطابق العلوي فيقسم هو الآخر إلى مستويين. المقصورات وتقع أمام الطابق العلوي الذي يشكل نصف حجم الصالة وكان في المقصورة الواحدة أربعة مقاعد وثمن المقصورة ستمائة فلس، وتأتي بعدها مقاعد الطابق الثاني وكان سعرها مائة وثلاثين فلسا.
ومع تطور الواقع الاقتصادي والاجتماعي العراقي تطور بالضرورة الواقع الثقافي، فتم بناء صالات سينما حديثة. وتقسمت هذه الصالات نفسها إلى مستويات ذات طابع ثقافي فصارت بعض صالات السينما، خاصة الحديثة منها تعزف عن عروض الأفلام العربية لأنها ترى في الفيلم العربي مستوى فنيا هابطا لا يليق بمستوى الصالة، فكانت سينما الخيام وسينما غرناطة في بغداد على سبيل المثال لا تعرض سوى الأفلام الأمريكية والفرنسية والإيطالية ومثلها في البصرة سينما الوطني الشتوي وسينما الوطني الصيفية «المفتوحة» وسينما الميناء في المعقل. وهناك صالات سينما تعرض نخبا من الأفلام العربية إضافة إلى الأفلام الأوروبية والأمريكية ومنها سينما النصر وسينما بابل بغداد وفي البصرة سينما الحمراء الجديدة. أما بقية الصالات في باقي المحافظات فإنها تعرض كافة الأفلام العربية وغير العربية.
الذي يريد الذهاب الآن إلى تلك الصالات السينمائية سيجد نصبا للخراب، بقايا بناء، فجوة عريضة في سقف صالة سينمائية أحدثتها قذيفة صاروخية، جزءاً من شاشة بيضاء راكنة على نصف جدار صالة، عموداً كونكريتياً يشبه الأعمدة اليونانية المتكسرة أثناء الحفريات في التنقيب عن الآثار. اسم الصالة مكتوب نصفها والنصف الآخر بقايا تراب، ماكنة عرض صدئة لا تدور وعلباً عريضة في داخلها أشرطة سينمائية بداخل تلك الأشرطة آلاف الممثلات الجميلات والممثلين الجميلين لا يتحركون وربما ثمة زاوية من بقايا مقصف تحول إلى مقهى صغير من دون إيجار يقبع فيه رجل مسن يبيع الشاي للمارة.
عندما سقط النظام الشمولي الدكتاتوري في العراق، حدث فراغ في مجال السينما مثل ما حصل في بقية أدوات التعبير الثقافية المرئية والمكتوبة والمسموعة. ولكن في مجال السينما كان الفراغ واضحا وصارخا ومربكا. ولقد كان المعتقد بأن الانتقال غير المدروس والفوضوي من نظام سياسي حديدي إلى نظام سائب لم يتلمس طريقه في شكل الدولة ونظام المجتمع هو السبب في ضياع الثقافة السينمائية على مستوى الإنتاج والمشاهدة. ولكن نظرة منتبهة إلى هذا الواقع تؤكد لنا حقائق أخرى غير حقيقة الانتقال من نظام إلى آخر بشكل كامل وفي كافة مجالات الحياة تتعلق بالآيديولوجيا السياسية. مسألة إعادة بناء الصالات أو ترميم الأفلام التالفة أو إيجاد حلول للأفلام المفقودة لا تكمن بصاروخ نسف صالة سينما الخيام وسينما الوطني وسينما غرناطة وسينما بابل. والمسألة لا تتعلق أيضا بإحراق الأفلام العراقية بأصولها السالبة ونسخها الموجبة، بأفلامها الوثائقية وأفلامها الروائية. كل ذلك يمكن ترميمه ويمكن إيجاد حلول للأفلام المفقودة في بلد يغفو على بحر من النفط والكبريت والزئبق الأحمر. ولكن المسألة تتعلق بالآيديولوجيا الخطيرة التي تسود اليوم المجتمع العراقي الذي أصبحت فيه الكاميرا السينمائية آلة خطيرة لأنها تكشف الواقع الموضوعي.
يتساءل الكثيرون كيف يمكن أن نقيم صناعة سينما في العراق بعد سقوط النظام الشمولي؟
في كل بلدان العالم وفي ظروف تشبه ظروف العراق ما بعد الاحتلال بهذا الشكل أو ذاك، تؤرخ السينما عن وجود أفلام أنتجت في الظروف الصعبة أو حتى المستحيلة. ويمكن أن يحصل هذا في العراق ولكن مثل هذه الأفلام تعتبر استثاءات وليست قاعدة. مثل هذه الأفلام لا تنتج سينما عراقية لأنها حالة استثنائية، فالسينما هي قاعدة مادية للإنتاج السينمائي ونظم مالية ومؤسسات توزيع تحقق تراكما كميا ينتج بالضرورة تراكما نوعيا وتتفاعل الحركة السينمائية بين معاهد التدريب المهني والأكاديمي وبين شركات الإنتاج وشركات التوزيع أو المخرجين المنفذين وتتأسس صحافة سينمائية تواكب العملية الإنتاجية وتخضعها للنقد والتقييم. إن السينمائيين العراقيين داخل العراق يكافحون اليوم وسط ظروف لا إنسانية حتى على مستوى العيش وتحريك كاميراتهم محفوف بالمخاطر. لقد نفذ أحد المخرجين في العراق فيلما وثائقيا وثمة لقطة في شارع يسير فيه الناس، واللقطة عامة وليس فيها تركيز على وجه معين. بعد فترة وبعد أن عرض الفيلم في التلفزة وعرف اسم مخرجه توجه إليه شخصان من عائلة ظهرت صورة أختهما في الفيلم وطالبا المخرج بدفع مبلغ كبير أو بفقدان حياته ما أضطر المخرج لمغادرة العراق ولم يكن راغبا بترك وطنه وكان مصرا على تحقيق سينما عراقية حتى في ظروف العراق الصعبة. إن المهمة التي تقع على عاتق السينمائيين العراقيين تتمثل الآن في شقين، الأول محاولة استعادة ما تلف من الأفلام. فالسينما العراقية ومنذ بداية الأربعينات أنتجت وحتى نهاية الحقبة الشمولية الدكتاتورية أكثر من مائة فيلم روائي. وهذه الأفلام كان بعضها من إنتاج مؤسسة السينما العراقية وكثير منها أنتجته المؤسسات السينمائية الخاصة. وكانت أغلب تلك الأفلام مخزونة لدى ستوديو هاماز وهو ستوديو يقع في الطريق بين بغداد وبغداد الجديدة. وفي الحقبة السابقة للنظام الشمولي تم الاستيلاء على كافة الأفلام المخزونة في ذلك الستوديو وتحولت ملكيتها «نهبا» إلى الدولة العراقية ومؤسستها السينمائية. كافة هذه الأفلام اختفت مع دخول الاحتلال. قيل إنها أحرقت وقيل سرقت. في حال تم التأكد من الأفلام المحروقة فينبغي البحث عن النسخ الموجبة والموجود بعضها لدى مؤسسات مهرجانات السينما في العالم ومحاولة عمل نسخ نظامية منها. وبعدها يصار إلى تأسيس مكتبة سينمائية للفيلم العراقي خارج العراق بدعم من منظمات دولية تعنى بالثقافة مثل منظمة اليونسكو. أما الشق الثاني من المهمة الملقاة على عاتق السينمائيين العراقيين فيتمثل في إنشاء صندوق لدعم السينما العراقية داخل العراق وتقديم الدعم للسينمائيين العراقيين الذين يعملون في ظروف إنتاج قاسية وتوفير فرص المونتاج خارج العراق والمشاركة في مهرجانات السينما ومثل هذه المهام تحتاج إلى صندوق مالي. نحن هنا نتحدث عن بلد اسمه العراق وليس الصومال أو جيبوتي. وعلى الدولة أن تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية والسياسية في تأسيس مثل هذا الصندوق الذي لا يكلف الكثير من ميزانية بلد صرح بميزانيته لهذا العام ما قدره ثمانية وأربعون مليارا من الدولارات.
الدولة العراقية اليوم والاحتلال بشكل قانوني يتحملان مسؤولية الخسارة التاريخية والحضارية التي حلت بالثقافة السينمائية العراقية. فهل نحن أمام محكمة محلية أو دولية يقف فيها أمامنا نخب من ضباط الجيش الأمريكي وعدد من الساسة والوزراء العراقيين ورجال البرلمان العراقي. وكيف يصار إلى محاكمتهم وتحميلهم مسؤولية ما جرى للفيلم العراقي والسينما العراقية.
علينا أن نتصور فنانا عراقيا نشأ شابا ودرس السينما وعمل على تأسيس صناعة سينما عراقية فتمكن من إخراج بضعة أفلام روائية وعدد من الأفلام الوثائقية وأصبح فخورا بإنجازه الثقافي، حيث أضاف لتأريخ بلاده إنجازا حلم به كثيرا ونجح في تحقيقه وهو متيقن، مثل ما يحصل في كل بلدان العالم أن نتاجه الثقافي هذا محفوظ في المكتبة السينمائية وفي ظروف حفظ نظامية. يسقط النظام السياسي لأي سبب من الأسباب وبأي طريقة من الطرق المحلية أو الدولية، عبر انقلاب عسكري عربي أو عبر احتلال أمريكي دولي. ويفيق فجأة وبعد كل سنوات العمر بأن كل الذي جاء من أجله للحياة قد تم حرقه. كل تلك الأحلام وكل تلك الأفلام وكل عراك للمعوقات التي واجهته وتمكن من تجاوزها وجلس قرير العين مطمئنا أنه أضاف قيمة لتأريخه الثقافي ولتأريخ العراق السينمائي فيضيع كل شيء وينتهي كل ذلك التاريخ وتتلف كافة الأصول السينمائية التي تضم داخلها عشرات الممثلين الذين مات بعضهم وبعضهم الآخر صار كهلا وتضم داخلها شوارع العراق ونخيله وأزقته وهو لم يفكر يوما أن يطبع نسخا من تلك الأفلام ويحفظها خارج بلاده، ولماذا عليه أن يطبع نسخا إضافية وكيف يمكن أن يحفظها خارج بلاده. إنها عملية شبه مستحيلة وغير مألوفة.
هذا بالضبط ما حصل للسينما العراقية .. وكأن هذا المخرج وغيره لم يولدوا أو هم بحاجة إلى أن يعودوا مرة ثانية صغارا ويحلموا في سينما عراقية جديدة .. وهنا يكمن المستحيل!
الشرق الاوسط