ذاكرة الشعوب في السينما
لا تزال ثمة حقب مفقودة من التاريخ يصبح صعبا العثور عليها.. وبفقدانها فقدت حقائق كثيرة
قاسم حول
كنت في زيارة إلى أستوديو سينمائي في أمستردام لطباعة بعض الأفلام فشاهدت قسما كبيرا يعمل فيه عدد من الصبايا أمام أجهزة تصحيح الأفلام السينمائية من الخدوش التي تحصل على الفيلم السالب أو الموجب بنوعيها من قياس 35 و16 مليمترا، وأثار ذلك فضولي في وقت تتحول فيه التقنية حتى السينمائية عبر الفيديو والحاسوب وبرامجه الكثيرة والناجحة في العمليات الفنية والتوليف.
سألت مدير الأستوديو فأخبرني أن هذا جزء من تأريخ أوربا! عرفت بأنه في أوربا التي توحدت ثمة آلية تفصيلية في كل مناهج الحياة تسير باتجاه الوحدة الأوروبية ومنها الذاكرة. وعندما سألته لماذا هذا جزء من التأريخ وليس كل التأريخ فقال لي: ان ثمة صندوقا أقر تأسيس الذاكرة الأوروبية وقام بجمع كافة الأصول السينمائية السالبة والموجبة وبفعل التقادم والأحداث التي مرت بها أوربا ورغم العناية غير العادية بالوثيقة السينمائية فإن الكثير من الأفلام تعرضت لتلف جزئي. فالوثائق التي ليس لها أصول سالبة Reversal التي كانت تعرض مباشرة بعد الإظهار، أو الأفلام الموجبة التي فقدت أصولها السالبة أو الأفلام السالبة التي تعرضت للرطوبة أو للحرارة عبر تأريخ أوربا القديم منذ نهاية القرن التاسع عشر. هذه الوثائق تشكل تأريخا وذاكرة للشعب الأوروبي وللقارة الأوروبية وفيها من الأحداث الخطيرة والشخصيات التأريخية ما يشكل ذاكرة التأريخ. وقد تم تقسيم كل هذه الوثائق الكثيرة والهامة على كافة استوديوهات أوربا بالتساوي للمباشرة بترميم وترتيش تلك الأفلام.
هذه هي العملية الأولى حيث سيصار بعد ذلك إلى نقل الأصول على الذاكرة الخارجية الحواسيب وتحفظ الأفلام في مكتبة أرشيفية حيث التصوير اليوم لا يتم سوى عن طريق الذاكرة التي تنقل على شرائح يتم تجديدها كل مائة عام.
يقابل هذه الوحدة الثقافية التي هي نتاج الوحدة السياسية الأوروبية تفكك في أجزاء الوطن العربي الذي كانت وحدته مجرد شعارات وحلم ومعارك وقسرية في غياب العملية الديمقراطية في الوطن العربي ما أدى إلى عمليات الغزو القبلية والنهب القبلي ليس فقط نهب المال بل أيضا نهب الوثائق ونهب الذاكرة.
أصبح الوطن العربي أوطانا عربية وأصبح الفكر القومي حلما والحلم القومي منامات، وحل محل فكرة الوطن العربي مشروع الشرق الأوسط الذي هو مشروع جغرافي سيشكل بالقوة وليس بالديمقراطية البديل للوطن العربي والحلم العربي. ولا ندري ماذا يخبئ لنا الغد. ولأننا لا ندري فما الذي ينبغي علينا عمله لحفظ الذاكرة. هنا وضمن هذا الواقع يأتي دور كل وطن على انفراد أن يفكر في تأسيس ذاكرته أو أن يصار إلى أن تتبنى منظمة اليونسكو هذه المهمة وبدعم من المؤسسات الثقافية العربية أو من الأفراد أو الحكومات وبشكل خاص بلدان التعاون الخليجي. وأنا هنا أتحدث فقط عن التأريخ القديم المصور في أغلبه بمعدات وأشرطة السينما. في عام 1973 زرت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية السابقة. والتقيت وزير الثقافة آنذاك عبد الله باذيب. وفي معرض الحديث خبرني بأن ثمة علبا سينمائية يعلوها الصدأ مرمية في سرداب تابع للوزارة وطلب مني أن أبحث في هذه العلب التي لا يعرفون ماذا في داخلها! عندما دخلت السرداب لم يكن الأمر سهلا. فالعلب يعلوها الصدأ والكمية كبيرة والغبار يشكل طبقة فوقها فطلبت علبة واحدة أفحصها كعينة. وأخذت علبة لا على التعيين. مسحت الغبار عن العلبة وفتحتها ولم تكن الأفلام موضوعة في سلوفان كما يتطلب الحفظ داخل العلب، فهي مجرد أشرطة موجبة – ريفيرسال – ليست لها أصول سالبة. قسم منها بالأسود والأبيض وقسم بالألوان. قررت وبحذر شديد أن أعرض منها دقيقة واحدة. كانت ثمة ماكنة عرض قديمة قياس 16 مليمترا وشاهدت أول دقيقة. فكانت اللقطات الأولى لجنود بريطانيين مع سلاطين وحاشية يمنية وبعض السلاطين من أصول هندية. ثم شاهدت لقطة لسلطان يمسك بيده عصا وفي نهاية العصا رأس كبير من القار الجامد تبرز منه أطراف المسامير المدببة. وفي زاوية من الحرش رجل مقيد ففهمت لاحقا بأن هذه العصا هي وسيلة الإعدام حيث يضرب الشخص برأسه عدة مرات حتى يموت. لم أكمل المشهد خشية أن يجرح الشريط بالماكينة القديمة. خبرت الوزير بأهمية الوثائق وسألته لماذا هي مرمية وصدئة. قال عندما غادر البريطانيون مدينة عدن تركت هذه العلب في مكانها. لم تكن هذه الأفلام مصورة من قبل وكالة أنباء أو مؤسسة تلفزيونية إنما كان يصورها الجنود البريطانيون وموظفو السفارة وعائلاتهم ومساعدو السلاطين، يصورونها على أشرطة موجبة ريفرسل ويرسلونها إلى بريطانيا لإظهارها وتعود إليهم لكي يتسلوا بالنظر إليها. كانوا يصورون كل شيء في حياتهم. أخذت الأفلام إلى بيروت وقمنا بغسلها في أستوديو بعلبك وطبعنا منها سالبا أقل جودة من الأصل الموجب، ولكن كان ذلك على سبيل الاحتياط.
بعد الحرب التي دارت بين أقطاب السلطة الجنوبية في اليمن احترقت الكثير من الموجودات، وأتمنى أن لا تكون تلك الوثائق قد احترقت أو اختفت. وفي العراق على سبيل مثال آخر، أحرقت الدولة الشمولية وثائق العراق للفترة من الرابع عشر من تموز 1958 حتى الثامن من شباط عام 1963 باعتبار تلك الفترة كان يتزعمها عبد الكريم قاسم وبعد أن أعدموه في دار الإذاعة أعدموا سجله المرئي كاملا فاختفت مرحلة هامة موثقة من تأريخ العراق وفيها تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. ولم يتبق منها سوى بضع لقطات متوفرة في وكالات الأنباء المصورة. وبعد احتلال العراق في التاسع من شهر أبريل عام 2003 تم إحراق كافة الأفلام العراقية في مخازن مؤسسة السينما العراقية. الأفلام الوثائقية والروائية المنتجة منذ بداية الأربعينات وحتى بداية الاحتلال.
ورغم كل محاولات تأسيس الأرشيف المركزي من قبل الجامعة العربية أو بمبادرات خليجية فإن الواقع الذي وصل إليه النظام العربي لم يعد قادرا على تأسيس مثل هذا المركز الأرشيفي وعموما فإن منطقة الخليج لا تصلح لحفظ الوثائق وبشكل خاص الوثائق السينمائية بسبب الحرارة والرطوبة، فكل المدن الساحلية لا تصلح موقعا للأرشفة.
اليوم وبتكاثر الفضائيات وتطور البث التلفزيوني تغير واقع الأرشفة وأصبحت كل مؤسسة تلفزيونية لها أرشيفها الخاص، إضافة إلى التغطية الإخبارية لوكالات أنباء عملاقة لها مراسلون في أنحاء العالم. وأصبح للعالم مركز يؤرخ الأحداث في العالم ولكن لا تزال ثمة حقب مفقودة من التأريخ يصبح صعبا العثور عليها، وبفقدانها فقدت حقائق كثيرة ولعل غياب الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط تسبب في عدم توثيق الكثير من الحقائق. تطور الكاميرات ورخص أثمانها ساعد في المقابل على توثيق الواقع. فلقد تطورت الكاميرا المنزلية وهي تقترب مع الوقت من الكاميرا الحرفية وسيكون بإمكان كل مواطن أن يلتقط ويوثق ويبيع الوثيقة. المشكلة اليوم لم تعد تتعلق بالتوثيق بقدر ما تتعلق بالحفظ والبرمجة وبنظام الأرشفة. وتبقى مشكلة الماضي تحتاج إلى حل، حيث كان التوثيق يتم بكاميرا السينما ومادتها السليلودية القابلة للتلف وينبغي البحث في كيفية ترتيشها وإعادة الحياة لها ونقلها على الفورمات الحديثة وأيضا ضمن مواصفات طقسية نظامية تحفظ التأريخ. ولهذا السبب بادرت أوروبا، وهي التي تحفظ أرشيفها الوثائقي وحتى أفلامها الروائية وفق أسس نظامية للأرشفة، إلى جمع تأريخها وبدعم من الصندوق الأوروبي وضعت نظاما لإعادة أرشفة تأريخها بعد أن توحدت وعملت على تشغيل كافة استوديوهات السينما لتنظيف وترتيش التأريخ المصور سينمائيا وإنشاء مكتبات أرشيفية لتأريخها القديم ليكون مرجعا للأجيال القادمة.
أما في منطقة الشرق الأوسط «الوطن العربي سابقا» وفي هذه المرحلة الملتبسة من تأريخ المنطقة فإن المؤسسات الدولية الداعمة للثقافة العربية ومنظمة اليونسكو يمكن أن تلعب دورا ايجابيا في تأسيس ذاكرة المنطقة. ومن دون منظمة دولية ومن دون خبراء متخصصين فإن التأريخ قد يحرق أو يضيع أو يتلف، لأن أية زيارة لأية مؤسسة تلفزيونية أو سينمائية سوف تواجهنا أكداس من علب الصفيح وبداخلها أفلام أغلبها قياس 16 مليمترا لا أحد يعرف ماذا تحتوي من الحقائق، فإن أي كادر صورة سينمائية هو حقيقة ثابتة وهناك البلايين من الحقائق الثابتة على وشك التلف إذا لم تبادر مؤسسات دولية للقيام بخطوات على غرار الخطوة الأوروبية المدعومة من قبل صندوق الثقافة للوحدة الأوروبية.
وحقيقة الأمر فإن الجامعة العربية هي المسؤولة عن هذا الجانب ولكن أداء الجامعة العربية ليس هو الأداء المطلوب بسبب الواقع العربي لكن هذه الجامعة بإمكانها أن تبادر حتى على سبيل الدراسة وإيجاد الحلول المالية ليست بالحجم المعجزة، كما أن معهد العالم العربي يمتلك مثل هذه الكفاءة سيما وهو موجود ومدعوم فرنسيا، وفرنسا أكثر بلدان العالم اليوم تعنى بالثقافة أفريقيا وعربيا. فالجامعة العربية ومن خلال معهد العالم العربي وبدعم من منظمة الثقافة اليونسكو ومقرها باريس يمكن أن تساهم في تأسيس ذاكرة المنطقة. والأمر يحتاج فقط إلى قرار ثقافي وإلى مبادرة من جهة معنية بهذا الشأن الثقافي والتأريخي والرسالة هنا موجهة بالأساس لجامعة الدول العربية لأخذ زمام المبادرة في تقديم المشروع بالتعاون مع اليونسكو ومعهد العالم العربي المعني والناشط في مجال الثقافة العربية.
الشرق الاوسط